الوقت – شهدت الحرب في غزة العديد من المآسي الإنسانية، وكانت هناك أمثلة كثيرة على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية من قبل الكيان الصهيوني، لكن في الأسابيع الأخيرة، ركزت أذهان العالم ووسائل الإعلام في معظمها على حدوث نقص حاد في الغذاء على نطاق واسع، وفي الوقت نفسه الذي انتشرت فيه صور الأطفال الذين ماتوا بسبب المجاعة، ولقد أدى عجز المجتمع الدولي عن إجبار الصهاينة على منح الإذن بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة إلى احتجاجات وانتقادات دولية، ولكن في عكس التطورات، عادت الأمم المتحدة إلى القضية المتكررة والمغلقة المتعلقة بالاعتداء الجنسي المزعوم على نساء وأطفال إسرائيليين أثناء عملية اقتحام الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي.
ما هي الوثائق التي يستند إليها التقرير؟
الأمر المهم فيما يتعلق بتصريح مراسل الأمم المتحدة هو أن هذا التقرير لا يقدم أي دليل سوى ادعاءات الصهاينة نفسها غير المثبتة، وبالتالي لا يوجد دليل جديد يبرر الاستنتاج بأن مقاتلي حماس ارتكبوا جريمة اغتصاب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وبعد أحداث السابع من أكتوبر والضربة الأمنية والوجودية الكبرى التي تلقاها الكيان الصهيوني، تبنت وسائل الإعلام الغربية المتحالفة مع الصهاينة سياسة بناء الفضاء ضد قوى المقاومة الفلسطينية بهدف ربط الرأي العام العالمي مع جرائم الصهاينة في غزة والإبادة الجماعية للفلسطينيين، وفي هذا الصدد، أعيد نشر بعض الادعاءات على نطاق واسع مثل قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين أو تشويه النساء واغتصابهن، ويدعي التقرير أنه حتى البيت الأبيض تراجع لاحقًا عن تأكيد التقارير في البداية، وأغلب هذه التقارير مبنية على ملاحظات صهاينة أو أطباء إسرائيليين، وحتى الآن لا أنباء عن نشر صور توثيقية لهذا الادعاء أو كلام شهود.
وعلى سبيل المثال، في أوائل ديسمبر/كانون الأول 2023، قال مسؤول في الشرطة الإسرائيلية للكنيست إن التحقيق جمع حتى الآن "أكثر من 1500 إفادة صادمة" من شهود وأطباء واختصاصيي علم الأمراض، وتشمل القضايا "تجريد الفتيات" و"الاغتصاب الجماعي والتشويه وقطع الثدي وقتل امرأة شابة"، وترددت ادعاءات أخرى بشأن إطلاق النار على الأعضاء التناسلية والبطن والساقين و... وهذه الادعاءات التي رفضتها حماس بشدة، لم يتم إثباتها بتوثيق موضوعي، لتبقى كادعاءات، ولذلك يلجأ الصهاينة إلى تبرير أيديهم الفارغة في مواجهة المطالبة بتقديم الأدلة والمستندات.
وعلى سبيل المثال، قال كوخاف إلكيام ليفي، رئيس اللجنة البرلمانية "الجرائم ضد المرأة" في الكنيست، في نوفمبر/تشرين الثاني: إن "الأغلبية العظمى من ضحايا الاغتصاب وغيرها من ضحايا الاعتداءات الجنسية قُتلوا في السابع من أكتوبر/تشرين الأول ولن يتمكنوا أبداً من الإدلاء بشهادتهم".
لكن حقيقة خواء جيوب الصهاينة من نفخ أجواء معادية للفلسطينيين، لم تجعل هذا الكيان يوقف ضغوطه على الأمم المتحدة لتقديم تقرير سياسي لا أساس له من الصحة، وأخيرا، بعد مرور ما يقرب من 6 أشهر على قرار الأمم المتحدة، صدر تقرير "براميلا باتن" حول عملية اقتحام الأقصى، ويكفي زيف هذا التقرير أن ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، وسط مخاوف الصهاينة من احتمال رفض غوتيريش له، اضطر في الـ3 من آذار/مارس إلى طمأنة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني بأن "الأمين العام للأمم المتحدة" لن يتخذ أي إجراء لقمع هذا التقرير"، واتهم الصهاينة مرارا الأمم المتحدة وأمينها العام أنطونيو غوتيريس بتجاهل ادعاءات هذا الكيان بشأن الاعتداء الجنسي على يد قوات حركة حماس خلال عملية السابع من أكتوبر.
حماس: تشكيل لجنة لتقصي الحقائق
وبعد نشر هذا التقرير، أدانت حركة حماس هذا التصرف السياسي المنحاز لممثل الأمم المتحدة، ودعت إلى تشكيل لجنة دولية لتقصي الحقائق، ووصفته بأنه محاولة للتغطية على تقرير مراسلي الأمم المتحدة الذي يفيد بوجود أدلة قاطعة على ارتكاب جرائم فظيعة وانتهاكات لحقوق الإنسان للمرأة والفتيات الفلسطينيات.
وجاء في هذا البيان: على الرغم من ادعاءات السيدة باتن واتهاماتها الباطلة ضد المقاومين الفلسطينيين، إلا أن تقريرها لم يوثق أي دليل على ما تسميه ضحايا هذه الحالات، بل اعتمد على مؤسسات وجنود ومسؤولين إسرائيليين في تقريرها، ولقد رفضتها جميع التحقيقات والتقارير الدولية، كما أن ادعاءات السيدة باتن تتناقض بشكل واضح مع شهادة الأسيرات الإسرائيليات المحررات عن حسن معاملة المقاومين.
وتركز حماس على التقارير المختلفة التي يرويها الصهاينة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وهو ما يتناقض مع ادعاءات مراسل الأمم المتحدة، وعلى سبيل المثال، في إحدى الحالات، فوجئت مستوطنة تدعى "روتيم"، وهي مستوطنة من كيبوتس "كفار غزة" جنوب غرب الأراضي المحتلة، في مقابلة مع القناة 12 التابعة للكيان الصهيوني، بسلوك المقاومة، وقالت إن قوات المقاومة عندما دخلت منزلها أصيبت هي وأولادها بالخوف الشديد؛ لكنهم قالوا: "لا تقلقي! نحن مسلمون ولا نؤذي النساء والأطفال".
اغتصاب جماعي للنساء الفلسطينيات
لكن بقدر ما يظل تقرير ممثل الأمم المتحدة ضد حماس ضعيفا ومريبا، فإنه يصبح أقوى يوما بعد يوم أمام الوثائق المتعلقة باغتصاب النساء الفلسطينيات، ومؤخرا، كشف المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في حوار مع وكالة فرانس برس عن شهادات جديدة حول أسيرات فلسطينيات من قطاع غزة، تشير إلى تعرضهن للعنف الجنسي والتعذيب والمعاملة اللاإنسانية والاغتصاب والتجريد والاعتداء الجنسي، والتهديد بالعدوان من قبل قوات الجيش الصهيوني، ويستشهد هذا التقرير أيضاً بشهادات نساء فلسطينيات تم احتجازهن في أقفاص مفتوحة وفي ظروف شديدة البرودة وحرمان من الغذاء والدواء والعلاج اللازم ومنتجات النظافة النسائية، وتعرضن للتعذيب بشكل مستمر تحت التهديد بحرمانهن من الوصول إلى أطفالهن.
وتم الحصول على وثائق مراسل فريق الأورومتوسطي من خلال مقابلات ميدانية مع عشرات النساء، كما رجحت هذه المنظمة أنه بسبب الأعراف الثقافية والاجتماعية مثل الخوف والحرص على الشرف والكرامة، تم تسجيل عدد أكبر من النساء المعتقلات اللواتي يتعرضن لهذه الانتهاكات، ولكنهن غير مستعدات لإجراء مقابلات معهن والحديث عن تجاربهن الصعبة.
وقال الخبراء في بيانهم المشترك: "لقد صدمنا من التقارير التي تتحدث عن الاستهداف المتعمد والقتل غير القانوني للنساء والأطفال الفلسطينيين في الأماكن التي أصبحوا فيها لاجئين أو أثناء فرارهم، وأفادت التقارير بأن بعضهم قُتل برصاص قوات الجيش الإسرائيلي أو القوات التابعة له، بينما كانوا يحملون قطعاً من القماش الأبيض.
لعبة الصهيونية القديمة.. الهروب من العقاب بالتظاهر بأنك ضحية
الافتتاح المشكوك فيه لقضية الاغتصاب المزعوم لنساء إسرائيليات شبه مغلقة ومنسية في وقت يتعرض فيه الصهاينة وداعمهم الرئيسي، حكومة الولايات المتحدة، لضغوط دولية شديدة لوقف الحرب ورفع الحصار عن غزة، والإبادة الجماعية والتجويع، ويتم ذلك بالتأكيد لتقليل حجم فشل سمعة تل أبيب والإدانة الواسعة على مسرح الرأي العام العالمي، وعلى النقيض من تقليص الدعم لمقاومة حماس وحقوق الفلسطينيين.
وبينما مر أيضًا الشهر الخامس من الحرب غير المتكافئة التي يشنها الصهاينة في غزة، فإن حكومة الحرب التابعة لهذا الكيان، دون تحقيق أي إنجازات ملموسة لإطلاق سراح الأسرى أو تدمير حماس، لم تتكبد سوى المزيد من المعاناة المادية والبشرية والمالية والسياسية، وفي هذا الوضع يشعر نتنياهو بالقلق من أن نتائج قبول الهزيمة أمام حماس تدق كل باب حتى تتمكن من مواصلة الحرب لفترة أطول على أمل تحقيق انتصار ميداني لمنع الانهيار المحتمل.
لكن الآن، وعلى طول هذا المسار، لم يتوقف الدعم الخارجي والداخلي لحكومة الحرب التابعة للكيان فحسب، بل تغلغل عدم الرضا والانقسام داخل الحكومة، ومثال ذلك رحلة غانز التعسفية إلى أمريكا في الأيام الماضية، وفي هذا الوضع يبدو أن الصهاينة يرون الطلقة الأخيرة في جعبتهم لاستعادة الانسجام الداخلي ومواصلة الحرب، والعودة إلى لعبة القمع القديمة وكبش فداء على المستوى الدولي، ولذلك فهم بحاجة إلى تقرير أممي لهذه المناورة الدعائية.