الوقت- ذكرت قناة بلومبرج الإخبارية أن العلاقات بين مستشارة ألمانيا ورئيس فرنسا متوترة منذ فترة طويلة، ومن ناحية أخرى، فإن الحرب في أوكرانيا وتصريحات ماكرون الأخيرة حول احتمال نشر قوات غربية في أوكرانيا قد جلبت المزيد من التوتر وأن هذه التوترات وصلت إلى ذروتها.
وحسب تلك القناة الإخبارية، فإن ذروة الخلافات بين المستشار الألماني أولاف شولتز والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بدأت عندما أثار ماكرون مسألة النشر المحتمل لقوات الناتو في أوكرانيا خلال اجتماع رؤساء 20 دولة أوروبية في باريس، الاقتراح الذي لم يسفر عن رد فعل حاسم من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فحسب، بل سعت أيضا سلطات الدول الغربية وحتى فرنسا نفسها إلى تهدئة الوضع وإطفاء النار التي أشعلها ماكرون بتصريحاته.
وقال "فلاديمير بوتين" يوم الخميس الماضي خلال خطابه السنوي، في إشارة إلى عواقب تدخل الناتو في أوكرانيا: إن عواقب تدخلاتهم المحتملة ستكون أبشع بكثير، ثم إن تصرفاتنا وتصرفات حلفائنا ستؤدي إلى تدمير الأمن الأوروبي، وهذا سيؤدي إلى مخاطر على الجميع.
وقال وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان لو كورنو، الذي يشعر بقلق عميق إزاء الوضع الحالي، إن المناقشة والتشاور بشأن احتمال نشر قوات غربية في أوكرانيا، والذي لم يتم التوصل إلى توافق بشأنه، يتعلق باستخدامها لإزالة الألغام والتدريب العسكري، عمليات بعيدة عن الخطوط الأمامية، وهذه الخطة المحتملة "لا تعني إرسال قوات للحرب مع روسيا".
وقالت بلومبرج نقلا عن مسؤولين لم تسمهم إن ماكرون تحدث عن نية غامضة لأنه أراد خلق حالة من عدم اليقين في أذهان المخططين العسكريين الروس، إلا أن هذه التصريحات لا تتطابق وتتعارض مع مطالب مكتب شولتز، وتتناول هذه الشبكة الإخبارية تصريحات إيمانويل ماكرون من زاوية مختلفة وتقترح سببًا آخر لذروة هذه التوترات، حيث احتج ماكرون أمام الدول الأعضاء في الناتو بأنهم لم يسلموا أي شيء سوى "أكياس النوم والخوذات" إلى كييف في بداية الحرب... ويبدو أن هذه التصريحات اعتبرتها المستشارة الألمانية "إهانة"، إذ تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الألمانية تخلت تدريجياً عن إحجامها عن إرسال أسلحة فتاكة إلى أوكرانيا ووضعت نفسها في موقع الراعي الثاني للحرب الأوكرانية بعد الولايات المتحدة.
وسبق أن نشر معهد كيل الألماني، الذي يجمع المساعدات الوطنية لأوكرانيا، تقريرا أشار فيه إلى اختلاف حجم المساعدات المقدمة من الدول الأوروبية إلى كييف، وكتب أن ألمانيا، التي تتوخى الحذر، عرضت نحو 17.7 مليار يورو كمساعدات، أما فرنسا بموقفها المتشدد ضد روسيا، فقد خصصت 640 مليون يورو فقط كمساعدات عسكرية لكييف، وفي نهاية هذا التقرير، كتبت بلومبرج نقلا عن مساعدين مقربين لأولاف شولتز ومسؤول فرنسي: ماكرون معروف في برلين كشخصية ملكية وحاكم طموح يجيد تقديم الرؤى الكبيرة بدلا من تنفيذها، إنه لا يتفق مع المستشارة الألمانية، في المقابل، يرى ماكرون أن شولتز جبان ويفتقر إلى روح الطموح.
لقد دخلت الحرب في أوكرانيا عامها الثالث في 24 فبراير وهنا يمكن القول إنه ليس فقط لا يوجد حتى الآن أي أفق واضح لمحادثات السلام واستمرار مساعدات واشنطن لكييف، ولكن الدول الأوروبية منخرطة في خلافات في الرأي تجعل قضية أوكرانيا تبدو مهمشة، ويذكر المسؤولون الغربيون بعضهم البعض باستمرار بحجم مساعداتهم لكييف، وأحياناً يدلون بتصريحات ويحدث تبادل حاد بينهما.
موافقة فرنسية ورفض ألماني
أعلنت ألمانيا رفضها تسليم أوكرانيا صواريخ كروز من طراز "توروس"، عكس فرنسا وبريطانيا اللتين وافقتا على ذلك، استجابة لحاجة كييف إلى استخدامها في الحرب التي دخلت عامها الثالث، ما ينذر بانقسام أوروبي جديد حول ملف المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وأنهى المستشار الألماني أولاف شولتس يوم الاثنين 4 مارس/آذار الجاري الجدل القائم في بلاده منذ أسبوع حول تسليم صواريخ كروز من طراز "توروس" إلى أوكرانيا، وأكد أن ألمانيا ترفض إمداد كييف بتلك الصواريخ رغم مطالبتها الملحة بها، ذلك لمخاوف أمنية لدى الألمان من التورط في الحرب الدموية المستمرة منذ عامين.
ويصطدم هذا القرار الألماني بامتعاض أوكراني وأوروبي، وخصوصاً بعد قرار فرنسا في شهر يناير/كانون الثاني الماضي، تسليم أوكرانيا صواريخ كروز "ستورم شادو" المشابهة للصواريخ الألمانية المذكورة، وسخر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الموقف الألماني، وذهب بعيداً في إشارته إلى أن بلاده تأخذ بعين الاعتبار نشر قوات للدفاع عن أوكرانيا، وتنذر هذه النقاشات الدائرة بانقسام أوروبي جديد بشأن ملف المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا، تزامناً مع المخاوف السائدة في القارة بشأن تهديدات ترامب أنه قد "يشجع" روسيا على مهاجمة الدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو) التي لا تفي بالتزاماتها المالية.
وقال شولتز في مؤتمره الصحفي إن بلاده "لا تزال مترددة" بشأن إرسال صواريخ كروز طويلة المدى من طراز توروس (قد تصل إلى 500 كيلومتر) إلى أوكرانيا، مشيراً إلى خطر تورط بلاده بشكل مباشر في الحرب الجارية، وتجنب شولتز أن يستخدم لغة قطعية بخصوص الملف، لكنه فسّر تردده بأن "صواريخ توروس بعيدة المدى للغاية، و يجب ألا يُربط الجنود الألمان -في أي وقت وفي أي مكان- بالأهداف التي قد يصل إليها نظام الصواريخ"، في إشارة إلى احتمالية استخدام الأوكرانيين إياها في ضرب أهداف في عمق الأراضي الروسية.
يُذكر أن باريس وافقت منتصف شهر يناير/كانون الثاني الماضي على منح أوكرانيا نحو 40 صاروخاً من طراز "ستورم شادو"، وهي صواريخ صنعتها بشكل مشترك مع بريطانيا، ويبلغ مداها نحو 560 كيلومترا، وحول ذلك قال المستشار الألماني: "ما فعله الفرنسيون والبريطانيون لا يمكن أن تتبعه فيهم ألمانيا"، ولا تعد تصريحات شولتس مفاجئة، بل سبقه وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس الذي أكد في الاجتماع الوزاري لحلف شمال الأطلسي شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023، أن برلين لن ترسل الصاروخ إلى أوكرانيا، كما استثنى البرلمان الألماني منظومة "توروس" من حزمة المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا التي صدق عليها في 22 فبراير/شباط الماضي
شقاق ألماني - فرنسي حول سلاح أوكرانيا
ورغم الوضوح الألماني المسبق بخصوص صواريخ "توروس"، لم ينفِ ذلك الامتعاض الكبير الذي ساد في الأوساط الأوروبية بسبب تصريحات شولتس الأخيرة، وخصوصاً من طرف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي أعرب عن ذلك بالسخرية من "الخوذ وحقائب النوم" التي سبق أن أرسلتها برلين مساعدات عسكرية إلى الأوكرانيين.
وأورد ماكرون في تعليقه غير المباشر القرار الألماني في كلمته أمام مؤتمر لتعزيز التضامن الأوروبي مع أوكرانيا في باريس يوم 26 فبراير/شباط الماضي بأن كل خيارات دعم كييف مطروحة على طاولته، بما في ذلك "إرسال جنود على الأرض"، مؤكداً بالقول: "لا ينبغي استبعاد أي شيء، سنبذل كل ما في وسعنا حتى لا تفوز روسيا"، وسرعان ما تلقّف شولتس خطاب ماكرون وردّ عليه في تصريحات في اليوم التالي وقال: "ما تقرر بيننا منذ البداية يظل سارياً إلى المستقبل"، وهو "أنه لن تكون على الأرض قوات، ولن يُرسل جنود لا من الدول الأوروبية ولا من حلف شمال الأطلسي إلى الأراضي الأوكرانية".
من جانبه اعتبر مصدر دبلوماسي من دولة حليفة لفرنسا، أن ماكرون من خلال تصريحاته "يريد تأكيد دور فرنسا في الحصول على مقعد على الطاولة في إعادة تحديد توازن الأمن الأوروبي"، وانتقد الإعلام الأوروبي هذا الانقسام في الرؤى حول ملف المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا، إذ نددت صحيفة دير شبيغل الألمانية في عددها يوم 28 فبراير/شباط الماضي بما وصفته بـ"السلوك الأناني" للزعيمين اللذين يقدمان نفسيهما "على أنهما محرّكا أوروبا" في حين أنهما بصدد "إيذائها من خلال الغرور المحض".
وقال أندريه مارتن مدير لجنة دراسات العلاقات الفرنسية-الألمانية إن "الجدل الحاصل يشوش على مدى التقدم الذي أُحرز في أوروبا فيما يتعلق بالتعاون العسكري"، كما أنه "يسلط الضوء على اختلافات في وجهات النظر بين باريس وبرلين، وهو ما يمكن تفسيره بالتاريخ أيضاً"، فيما أرجعت مجلة بوليتيكو الأمريكية في تقرير لها سبب موافقة فرنسا منح أوكرانيا صواريخ كروز ورفض ألمانيا لذلك، إلى أن صواريخ "توروس" الألمانية مزودة بصمامات استشعار الفراغ، ما يجعلها أكثر دقة وتدميراً من نظيرتها الفرنسية، وهو ما تخاف برلين التورط فيه.
الانقسام في زمن مخاوف أوروبا الأمنية
تأتي هذه الانقسامات في وقت تواجه فيه أوروبا مخاوف أمنية، تثيرها تهديدات المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية دونالد ترامب بعدم الدفاع عن البلدان الأوروبية الحليفة في الناتو التي لا تفي بالتزاماتها المالية، في حال انتُخب رئيساً، وفي أواسط فبراير/شباط الماضي قال ترامب إنه إذا عاد إلى البيت الأبيض قد "يشجع" روسيا على مهاجمة الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي التي لا تفي بالتزاماتها المالية.
وأثارت تصريحات ترمب امتعاضاً واسعاً في الأوساط الأوروبية، بداية برئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، الذي وصف ما قاله المرشح الرئاسي الأمريكي بأنها "تصريحات متهورة لا تخدم سوى مصالح (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين".
وفي زيارة لقبرص، يوم الاثنين 12 فبراير/شباط الماضي، قال الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير إن "هذه التصريحات ليست مسؤولة، وهي تساعد روسيا"، كما اعتبر رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك أن ما قاله ترامب لا يدع أمام الأوروبيين بديلاً سوى "الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم".
وتضع الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة قادة الدول الأوروبية أمام مأزق دفاعي كبير، بسبب اعتماد القارة على الولايات المتحدة الأمريكية في الدفاع عنها، في وقت يتجه فيه الجمهوريون بقيادة ترامب إلى تقليص الارتباط الدفاعي بالاتحاد، وهو ما يؤكده كارين فون هيبل المدير العام للمعهد الملكي للأجهزة المتحدة (مؤسسة بحثية بريطانية) بالقول: "أعتقد أن القادة في جميع أنحاء القارة يدركون أكثر ما يمكن أن يعنيه ذلك (تصريحات ترامب) هذه المرة، وحتى إذا فاز بايدن فإنهم يعلمون أن الكونغرس ربما لا يزال يعاني من خلل وظيفي".
وسبق أن حذّر مفوض السوق الداخلية الأوروبي تييري بريتون في يناير/كانون الثاني الماضي من صعود "الترمبية" في الولايات المتحدة الذي أعاد التهديد المكشوف بفك الارتباط العسكري الأمريكي مع القارة العجوز وأثار المخاوف الدفاعية على الجانب الأوروبي، ويعد الجيش الأمريكي أكبر قوة في حلف الناتو، إذ يضم أكثر من 1.3 مليون عسكري نشط، مع ما يقرب من 800 ألف جندي احتياطي، ومجهز بأحدث تكنولوجيات العتاد العسكري وبقوة هجوم نووية كبيرة جداً تقدر بنحو 5244 رأساً نووياً.
في حين تبقى الجيوش الأوروبية أقل بكثير من حيث التعداد مقارنة بالجيش الأمريكي، إذ إن فقط ثلاث دول يفوق تعداد قوتها العسكرية 150 ألف جندي عامل، فرنسا بنحو 205 آلاف، وألمانيا بنحو 184 ألفاً، وإيطاليا بـ170 ألف جندي، وتعاني الجيوش الأوروبية من مشكلات عدة، أهمها ضعف الإنفاق على العتاد والذخيرة، وحسب أرمين بابيرغر رئيس شركة راينميتال (أكبر شركة دفاعية في ألمانيا) فإن أوروبا "تحتاج إلى 10 سنوات من أجل أن تصبح قادرة على الدفاع عن نفسها".