الوقت - بالأمس، وبعد عام من الصراع السياسي مع الغرب، صوّت البرلمان التركي أخيراً لمصلحة عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لينهي واحدةً من أكثر القضايا إثارةً للجدل في العلاقات بين تركيا وحلف شمال الأطلسي.
تشكلت بداية هذا التحدي الكبير لحلف شمال الأطلسي، عندما بدأت "العملية العسكرية الخاصة" الروسية في أوكرانيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، ونتيجةً لهذه الحرب هزّ زلزال سياسي وأمني أوروبا كلها، وكإحدى توابع هذا الحادث تقدمت فنلندا والسويد بطلب العضوية في حلف شمال الأطلسي.
هذا الطلب وضع الغربيين تحت رحمة تركيا، بسبب آلية العضوية في حلف شمال الأطلسي التي تقوم على التصويت الجماعي للأعضاء، لأن تركيا عارضت عضوية هاتين الدولتين بسبب الخلافات مع السويد بشأن قضية استضافة استوكهولم لمعارضي أنقرة، وخاصةً عناصر من قوات حزب العمال الكردستاني (الذين تعتبرهم تركيا وحلف شمال الأطلسي إرهابيين).
ورغم أن مسألة وجود ونشاط "الإرهابيين" كانت خلال هذه الفترة التي تزيد على عام، تعتبر السبب الرئيسي لوقوف أردوغان ضد انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي(الناتو)، لكن كان من الواضح منذ البداية أن الخلافات بين الغرب وتركيا في مختلف القضايا الجيوسياسية في العقد الماضي، قد أثّرت بشكل كامل على العلاقات بين أنقرة وبروكسل، كما سُمعت عدة مرات حتى التهديدات الثنائية بالطرد أو الانسحاب من الناتو.
إن شراء أنظمة إس 400 الروسية المتقدمة والدعم العسكري من واشنطن وحلف شمال الأطلسي للأكراد السوريين، والحفاظ على علاقات وثيقة مع روسيا وإيران، وأخيراً موقف تركيا المحايد في حرب أوكرانيا، قد أشعل نار هذه الخلافات إلى حد أنها أصبحت لا يمكن السيطرة عليها.
ومع ذلك، فإن فوز أردوغان الهش للغاية في الانتخابات الرئاسية لعام 2023، ومحاولته استعادة اقتصاد تركيا المتعثر هذه الأيام، أدى إلى تغيير سياسة أنقرة الخارجية الجديدة نحو وقف التصعيد مع الغرب.
وأخيراً وافق أردوغان على التسوية من خلال قبول ضمانة السويد بعدم استضافة معارضي أنقرة، وأيضاً التنازل عن بعض الامتيازات الأخرى منها إمكانية شراء مقاتلات إف-35، وبدلاً منها تحديث مقاتلات إف-16 وشراء الجيل الجديد من هذه المقاتلات.
ومع ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو، أنه في ظل هذا التبادل السياسي والعسكري، هل يمكننا أن نتوقع أن ينتهي الموسم البارد للعلاقات بين تركيا وحلف شمال الأطلسي، وأن يواجه الطرفان حقبةً جديدةً تقوم على تعزيز التعاون؟
النار تحت رماد الخلافات
نشأت تركيا من بقايا الإمبراطورية العثمانية المتهالكة، التي استمرت ستمئة عام، وامتدت في ثلاث قارات، وحكمت العالم الإسلامي بالإضافة إلى أجزاء من أوروبا.
تريد تركيا اليوم تحت قيادة أردوغان أن تعكس هذا التاريخ القوي للعب دور على الساحة الدولية، وأداتها هي الموقع الجيوسياسي الفريد لهذا البلد، في الجسر البري الذي يربط الغرب بآسيا الوسطى والشرق الأوسط العربي والشرق.
وفي الواقع، على الرغم من أن هذا البلد أنشأ شراكةً وثيقةً مع الغرب، من خلال عضوية حلف شمال الأطلسي وتعميق العلاقات التجارية مع الاتحاد الأوروبي، فإن هدف أردوغان الرئيسي يتلخص في تقديم تركيا كقوة مستقلة ذات هوية وطنية فريدة، وأخيراً فهو يسعى إلى تحسين مكانة تركيا الدولية، وترسيخ مكانتها كلاعب رئيسي في التطورات الدولية خارج نطاق الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وحسب الخبراء، فإن هذه الاختلافات في الهوية، بعد سنوات من الجهود التي بذلتها السلطات التركية للتكيف مع الظروف المختلفة لأوروبا من أجل الانضمام إلى هذا الاتحاد، هي التي جعلت أبواب الاتحاد تظل مغلقةً أمام الأتراك؛ وهي خلافات تشمل الانتقادات الغربية للديمقراطية وحقوق الإنسان في تركيا، والأهم من ذلك، الهوية الشرقية الإسلامية لهذا البلد، والتي تتعارض مع الطبيعة الغربية المسيحية للاتحاد الأوروبي.
لم يتم استيعاب هذه الاختلافات في الهوية بشكل كامل في العلاقات السياسية والاقتصادية بين أنقرة وبروكسل، ومن وقت لآخر تنتهي بظهور توترات جيوسياسية، كما في عام 2021، عندما ذكر الرئيس الأمريكي جو بايدن رسميًا الإبادة الجماعية للأرمن في أوائل القرن العشرين.
إضافةً إلى ذلك، في أهداف واستراتيجيات السياسة الخارجية التركية للسنوات المقبلة، لا تزال السياسات المختلفة مع استراتيجيات حلف شمال الأطلسي (الناتو) بارزةً.
خلال التوترات مع الغرب، اتجهت تركيا إلى تعزيز العلاقات مع القوتين العظميين الشرقيتين، وهما الصين وروسيا، ووسعت علاقاتها الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية مع منافسي الناتو، حيث عززت العلاقات مع بكين، التي أصبحت أكبر شريك تجاري خارجي لأنقرة في عام 2021.
وفي عام 2015، انضمت تركيا إلى مبادرة الحزام والطريق، التي أتاحت لها الوصول إلى التمويل غير الغربي لمشاريع البنية التحتية، بما في ذلك محطات الطاقة النووية ومحطات الطاقة التي تعمل بالفحم، من خلال جذب مليارات الدولارات من الاستثمارات الأجنبية الصينية والقروض والتبادلات النقدية.
وفي الوقت نفسه، لم تتماش تركيا مع الغربيين في السياسة الدعائية التي ينتهجها الغرب ضد أوضاع حقوق الإنسان في الصين، وخاصةً في قضية الأويغور، وفي عام 2009، وصف أردوغان سياسة الصين تجاه الأويغور بأنها "إبادة جماعية"، لكن منذ ذلك الحين، لم تثر أنقرة هذه القضية علنًا.
إن وضع علاقات تركيا مع روسيا أكثر تعقيداً، وحتى خلال فترة خفض التصعيد مع الغرب، لم يتخل أردوغان عن علاقات وثيقة نسبيًا مع روسيا، وعلى عكس توقعات الغرب، تجنب التخلي عن أنظمة الصواريخ إس 400 أو بيعها.
وتتعاون أنقرة وموسكو أيضًا في مشاريع البنية التحتية، مثل خط أنابيب الغاز الطبيعي ترك ستريم وأول محطة للطاقة النووية في تركيا، ولم تعترف تركيا، التي تعتمد بشكل كبير على واردات الطاقة الروسية، بحظر الطاقة الأوروبي المفروض على موسكو، وعلى الرغم من اتخاذ بعض الإجراءات المتعاطفة مع حلف شمال الأطلسي، مثل إرسال طائرات دون طيار إلى أوكرانيا، وحظر مرور السفن الحربية إلى مضيق البوسفور، وإدانة الهجوم الروسي على كييف، لكن تركيا كانت حريصةً دائمًا على عدم تدمير جسور العلاقات مع موسكو، وكانت مهتمةً بشكل أساسي بلعب دور الوسيط في الصراع.
تحرك تركيا نحو الاستقلال الدفاعي
على الرغم من أن حلف الناتو أراد دائمًا إظهار نفسه كميثاق استراتيجي شامل في مختلف الأبعاد السياسية والعسكرية والأمنية والاجتماعية والثقافية وغيرها، إلا أن التوقع الأول للأعضاء من الانضمام إلى هذا الحلف، هو الحصول على الدعم العسكري والأمني.
وهذا الوضع بالنسبة لتركيا لا يشبه الوضع بالنسبة لأعضاء الناتو الآخرين، لأن أنقرة اتهمت الناتو بالتقليل من احتياجات تركيا العسكرية، وتسليح منافسيها الإقليميين بسخاء منذ عقد مضى.
ووصلت هذه الشكوى والخلاف أخيراً إلى حد الانفجار مع شراء تركيا لأسلحة روسية متطورة، وأحدثت جدلاً كبيراً في وضع حلف الناتو، وهو جرح لن يلتئم حتى مع بيع الأسلحة الأمريكية لتركيا مؤخراً، وفي عام 2019، تحدت تركيا التحذيرات الأمريكية بعدم شراء نظام الدفاع الصاروخي الروسي إس-400.
تقول أنقرة إنها بحاجة إلى تحديث دفاعاتها الجوية، لكنها مُنعت من الوصول إلى نظام باتريوت الأمريكي الصنع، وتسبب هذا الإجراء في فرض بعض العقوبات على تركيا، وأيضاً استبعاد هذه الدولة من برنامج تصنيع الطائرات المقاتلة من طراز إف-35.
وكان عذر واشنطن هو أن الفنيين الروس الذين يقومون بصيانة نظام إس 400، يمكنهم الوصول إلى قدرات التخفي التي تتمتع بها هذه الطائرات، وهو الموقف الذي قدّم تركيا عملياً كحليف غير موثوق لحلف شمال الأطلسي، لأنها كانت تتعاون مع العدو الرئيسي والأساسي لهذا الحلف.
وقد دفع هذا الوضع تركيا الآن نحو الاكتفاء الذاتي العسكري، وخاصةً في مجال الأسلحة الاستراتيجية. فبعد النجاح في إنتاج الطائرات العسكرية دون طيار، تم وضع بناء السفن الحربية والقوارب دون طيار والمقاتلات المتقدمة، على جدول أعمال الأتراك مؤخرًا، وهو أمر يظهر أن أنقرة تسلك طريقاً واضحاً لتقليل اعتمادها العسكري على حلف شمال الأطلسي.
ومن المؤكد أن هذا الاكتفاء الذاتي المتزايد، سيزيد من قوة المناورة التركية في مواجهة السياسة الكلية لحلف شمال الأطلسي في الملفات الجيوسياسية، وهذا يعني توقع تعميق الفجوات في المستقبل.
الحفاظ على تفوق منافسي تركيا في البحر الأبيض المتوسط
لكن التشاؤم تجاه نهاية الموسم البارد للعلاقات بين تركيا وحلف شمال الأطلسي، لا يقتصر فقط على مراجعة الاستراتيجيات ووجهات النظر، بل إن هذه الحقيقة ظهرت حتى في شكل الاتفاق الثنائي الأخير بين واشنطن وأنقرة، بشأن إصدار الإذن للسويد بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.
تعدّ العلاقات مع اليونان وقبرص حاليًا، أكثر ملفات المنافسة الإقليمية إثارةً للجدل بالنسبة لتركيا، هذه أزمة طويلة الأمد، اشتدت في السنوات الأخيرة بسبب جهود الجانبين لاستغلال موارد الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط، حتى أنها وصلت إلى حد الحرب. حتى أن هذا النزاع دفع الاتحاد الأوروبي وأعضاء آخرين في حلف شمال الأطلسي مثل فرنسا، إلی دعم اليونان.
وفي مثل هذه الظروف، تم تفسير محاولة تركيا شراء طائرات F-35، ثم تحديث طائرات F-16، وكذلك تحديث الجيل القديم من طائرات F-16، بشكل أساسي على أساس الحفاظ على الردع العسكري وتحسينه ضد اليونان وحلفائها الأوروبيين.
وتتنافس اليونان وتركيا بشدة في المجال العسكري، وطلبت اليونان مؤخرًا 24 مقاتلة رافال فرنسية الصنع، و6 جديدة و18 مستعملة، بالإضافة إلى ثلاث فرقاطات فرنسية، ومنذ وقت ليس ببعيد، قال رئيس وزراء هذا البلد السابق "كيرياكوس ميتسوتاكيس"، إنه بسبب تصرفات تركيا، يتعين على اليونان تعزيز قواتها المسلحة.
ويتضمن العقد المبرم مع تركيا بيع مقاتلات "إف-16"، و48 محركاً توربينياً من طراز "إف-110"، و149 راداراً من طراز "إي إن إي بي جي"، و168 مجموعة الحرب الإلكترونية من طراز "فايبر".
لكن اليونان ستحصل على 40 مقاتلة من طراز إف-35 بقيمة شراء تبلغ 8.6 مليارات دولار، تتضمن أنظمة إضافية مختلفة، ومن المفترض أن تحل هذه الطائرات محل أسطول "إف-4 فانتوم" و"ميراج-2000".
وبمعنى آخر، ما حدث في مشهد الاتفاق مع أمريكا، كان خداعاً من واشنطن لأنقرة، لأن البيت الأبيض أعطى الضوء الأخضر لبيع المزيد من طائرات F-35 لليونان بالتزامن مع اتفاقية مبيعات الأسلحة الجديدة لتركيا، ليستمر الوضع كما كان من قبل.
وفي الختام، لا بد من القول إنه لا ينبغي اعتبار سياسة تركيا المتمثلة في التراجع التكتيكي والليونة تجاه عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي، بمثابة نهاية للخلافات بين أنقرة وبروكسل، لأن هذه المرونة حدثت من جانب واحد وفي ظل ضعف تركيا.
وبطبيعة الحال، فإن أردوغان، الذي سيتولى قيادة هذا البلد لمدة 5 سنوات أخرى على الأقل، سيواصل تعزيز استقلال تركيا السياسي وبرنامج الاكتفاء الذاتي العسكري.