الوقت - مع الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيسا وزراء اليابان والهند ورئيس تركيا إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، وإبرام عقود اقتصادية مهمة وطويلة الأمد في مختلف المجالات، تكرر السؤال مرةً أخرى في الأجواء السياسية والإعلامية لدول مختلفة: "ما المصالح التي تسعى إليها القوى الإقليمية والدولية في الإمارات؟"
يمكن أن تكون الإجابة الأولية والمختصرة على هذا السؤال، أنه بغض النظر عن جهود الإمارات للعب دور دولة رائدة في المجال الاقتصادي ومتطورة في مجال التقنيات الجديدة، تسعى أبوظبي جاهدةً لتصبح الشريك الرئيسي للعديد من البلدان في مجالات الاقتصاد والطاقة والنقل والعبور والتجارة، وتستخدم العملات الوطنية والتقنيات الناشئة والعلاقات السياسية الاستراتيجية، وبينما تنأى بنفسها عن السعودية في قضايا مختلفة، توازن أيضًا علاقاتها مع كتل القوى الإقليمية.
وفي هذا الصدد، تحافظ الإمارات على علاقتها مع إيران وتطبيع علاقتها مع تل أبيب، فمن ناحية، هي موجودة في مجموعة "تحالف غرب آسيا الرباعي"(I2U2)، التي تتكون من الهند والولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة والكيان الصهيوني)، ومن ناحية أخرى لديها علاقات واسعة مع الصين.
كما أن الاهتمام بالأبعاد المختلفة لقوة هذا البلد وخصائصها الجغرافية، وقدرتها على توفير الطاقة المستدامة للعديد من القوى الاقتصادية، زاد من جاذبية الإمارات وجعلها وجهة سفر لكثير من رؤساء الدول، ولكن ما الذي كان يبحث عنه رؤساء الدول الثلاث، الهند واليابان وتركيا، في الإمارات العربية المتحدة؟
الهند: زيادة ثقل العملات الوطنية في التجارة بين البلدين ووجود لاعب ثالث
الهدف الرئيسي من زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى الإمارات العربية المتحدة، هو الاتفاق على القضايا الاقتصادية وتنفيذ التجارة بين البلدين بالعملات الوطنية.
وقعت الهند اتفاقيةً مع الإمارات تسمح لنيودلهي بدفع ثمن البضائع المشتراة بالروبية بدلاً من الدولار، ما يعزز جهود الهند لخفض تكاليف المعاملات من خلال القضاء على تحويل الدولار، كما اتفق البلدان على إنشاء رابط دفع سريع لتسهيل تحويل الأموال عبر الحدود.
إن تنويع مصادر الواردات الغذائية وضمان الأمن الغذائي، أحد أهداف دولة الإمارات العربية المتحدة، وفي هذا السياق، تعهدت الإمارات بمبلغ 2 مليار دولار للمساعدة في تطوير سلسلة من "الحدائق الغذائية" في الهند، للتعامل مع انعدام الأمن الغذائي في جنوب آسيا والشرق الأوسط.
بغض النظر عن الجوانب المالية والاقتصادية لهذه الزيارة، يجب أن نذكر أيضًا الجانب الثالث والخفي لهذه العلاقة، وهو الكيان الإسرائيلي.
التعاون الثلاثي بين الهند والإمارات والکيان الصهيوني، له أبعاد استراتيجية مهمة للغاية، ويتم تنظيم هذا التعاون من قبل المال الإماراتي، وتكنولوجيا الکيان الإسرائيلي والسوق والقوى العاملة الهندية، ويعدّ الأمن البحري والأمن السيبراني من الجوانب المهمة لهذا التعاون.
ولهذه العلاقة سمة مهمة أخرى، وهي العلاقة الشخصية والحميمة بين رؤساء هذه الأطراف الثلاثة، والتي أعطت العلاقة عمقًا خاصًا، وبطبيعة الحال، فإن التعاون التجاري والاقتصادي والترانزيتي هو قلب هذه الشراكة، التي أدت إلى خطط تشغيلية جادة ومهمة للغاية لربط ترانزيت الهند بالبحر الأبيض المتوسط عبر الإمارات والکيان الصهيوني.
والنقطة المهمة الأخرى التي عززت هذه العلاقات الثلاثية (بصرف النظر عن تطبيع العلاقات بين الإمارات العربية المتحدة وتل أبيب)، هي غياب فاعل في هذه الأثناء؛ أي "الصين".
إن وجود الصين وعلاقاتها الواسعة مع أي دولة، وخاصةً في منطقة الخليج الفارسي ومضيق هرمز الحساسة للغاية، تواجه بطبيعة الحال معارضة الولايات المتحدة وعرقلة البيت الأبيض.
ولكن بما أن هدف أمريكا الجاد هو احتواء بكين ورسم حزام استراتيجي حول هذا البلد، فإن العلاقات الثلاثية بين دلهي وأبو ظبي وتل أبيب مدعومة من قبل أمريكا، وخاصةً أن الخطط العالمية للصين مثل مبادرة الحزام والطريق، قد أحبطت أيضًا بسبب وجود الهند في طريق البحر الأبيض المتوسط.
وفي هذا السياق، من المفيد جدًا أن نتذكر معارضة الولايات المتحدة الجادة لتوثيق العلاقات بين الصين والکيان الإسرائيلي في مجال البنى التحتية والتكنولوجيا(ميناء حيفا علی سبيل المثال).
بصرف النظر عن هذه الشراكة الثلاثية، فإن التعاون الثنائي بين الهند والإمارات ديناميكي ومتنامٍ للغاية، لقد بلغ حجم التجارة الثنائية بين البلدين 84.5 مليار دولار في الفترة من أبريل 2022 إلى مارس 2023.
وفي الواقع، تعدّ الإمارات العربية المتحدة حاليًا الشريك الرئيسي للهند في الخليج الفارسي وبين الدول العربية (الهدف من التجارة الثنائية غير النفطية بين البلدين، هو الوصول إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2030).
إن اتفاقية التجارة الحرة، وبرنامج التعاون الاستراتيجي، والاستثمار واسع النطاق لدولة الإمارات العربية المتحدة في الهند، واتفاقية التجارة بالعملات المحلية، وعقد لمدة 15 عامًا لشراء الغاز المسال واستيراد النفط على نطاق واسع من الإمارات وإلخ، هي جزء من الشراكة الواسعة بين الهند والإمارات.
ولا ينبغي أن ننسى أن الهند هي ثالث أكبر مستورد ومستهلك للنفط في العالم، وبعد حرب أوكرانيا وعلى الرغم من الضغط الهائل من الغرب بقيادة الولايات المتحدة، فإنها لم تدن تصرفات روسيا ولم تقلل من علاقاتها القائمة على الطاقة مع موسكو.
ولدى نيودلهي الآن أيضًا علاقات جادة تتعلق بالطاقة مع الإمارات العربية المتحدة، وتريد تنويع مصادر إمدادات الطاقة لديها، وإلى هذه الميزات، ينبغي أيضًا إضافة الوجود الكبير للقوى العاملة الهندية في الإمارات العربية المتحدة.
هذه القوى العاملة ذات قيمة كبيرة بالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة، لدرجة أن قنوات الإذاعة والتلفزيون المختلفة في الإمارات، تبث مجموعةً متنوعةً من البرامج باللغة الهندية، کما قامت طائرات الإمارات بتضمين الأفلام الهندية في قائمة التشغيل الخاصة بها.
هناك أيضًا العديد من الرحلات الجوية بين البلدين، وبالطبع هؤلاء العمال الهنود هم مصدر مهم للنقد الأجنبي لبلدهم، ويعيدون جزءًا كبيرًا من دخلهم إلى بلادهم، ويشكل الهنود 35٪ من سكان الإمارات البالغ عددهم 10 ملايين نسمة، وهم أكبر جالية هندية مغتربة في العالم.
ومن الجدير بالذكر أيضًا أن الهند قد غيرت السياسة الاستراتيجية التقليدية المتمثلة في "الاستقلال الاستراتيجي وعدم الالتزام"، إلى نهج متعدد المواءمة وتحاول "العمل" مع جميع البلدان من أجل زيادة الفوائد الاقتصادية، وهي سياسة اتبعتها دولة الإمارات بنجاح إلى حد ما.
ستعمل زيارة مودي إلى أبوظبي على تعزيز العلاقات بين البلدين (استكمالاً لزيارة مودي للإمارات 2019)، وستشهد مجالات متنوعة مثل التكنولوجيا والثقافة والعلاقات بين الناس والعلاقات السياسية المتعددة الأطراف (في مجموعات مثل مجموعة العشرين) توسعًا في التفاعلات، وتعمل الإمارات أيضًا كمركز أعمال لوصول الهند بشكل أكبر إلى الأسواق الأفريقية والأوروبية.
تركيا: زيارة أردوغان المختلفة إلى الإمارات
على الرغم من أن زيارة أردوغان كانت جولةً إقليميةً في الدول الثلاث، أي السعودية والإمارات وقطر، لكن رحلته إلى الإمارات كانت لها ميزات خاصة.
الخلافات بين أبو ظبي وأنقرة بشأن الإسلام السياسي، وقضايا تتعلق بجماعة الإخوان، والتطورات في مصر بعد سقوط حكومة محمد مرسي رئيس مصر الأسبق، والتوتر الخطير بعد مقتل جمال خاشقجي وانقلاب 2016، قللت إلى حد كبير من إمكانية وجود علاقة طبيعية بين البلدين.
لكن بعد عدة سنوات من التوتر، وحاجة الجانبين لمزيد من العلاقات ذات التوجه الاقتصادي وجذب رأس المال الإماراتي إلى تركيا، وقع الطرفان الآن عقودًا بقيمة 50 مليار دولار.
لقد ركّز التعاون بين أنقرة وأبو ظبي في الغالب على الطاقة والفضاء والصناعات الدفاعية، لكن لماذا ذهبت تركيا إلى الإمارات؟ ولماذا أعطت أبو ظبي الضوء الأخضر لأنقرة؟
الجواب الأول هو العامل الاقتصادي، حيث إن تركيا تواجه أزمةً اقتصاديةً وانخفضت قيمة الليرة، ويمكن للمال الإماراتي أن يقلص هذه الأزمة إلى حد ما.
وفي هذا الصدد، سيقوم الصندوق الوطني لإمارة أبوظبي بشراء ما يصل إلى 8.5 مليارات دولار من سندات الإغاثة من الزلزال التركي، وتأتي هذه الاتفاقيات إضافة إلى صفقة تجارية بقيمة 40 مليار دولار تم توقيعها لأول مرة في مارس الماضي، وتهدف إلى تنويع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين الإمارات وتركيا.
أيضًا، قام البلدان مؤخرًا بتوسيع نطاق روابطهما الجوية، حيث يقوم طيران الإمارات والاتحاد للطيران وفلاي دبي والعربية للطيران، بتشغيل رحلات مباشرة من دبي وأبو ظبي إلى وجهات مثل اسطنبول وأنقرة، وبعض المنتجعات الشهيرة على الساحل الجنوبي لتركيا.
والجواب الثاني يتعلق بالقضايا السياسية والاستراتيجية، حيث ترحب الإمارات، التي تسعى لتنويع حلفائها والتواصل مع جميع الفاعلين الإقليميين، بدفء العلاقات مع تركيا لزيادة نفوذها الإقليمي وتعزيز تحالفها، في ظل بعض الخلافات الخفية مع الرياض.
يعدّ توافق الطرفين مهمًا للغاية للارتقاء بالعلاقات إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، ويمكن أن يؤدي إلى وجود أكبر لتركيا في الخليج الفارسي.
وتجدر الإشارة إلى أنه في ظل الاتفاقيات بين طهران ومحور الرياض-الإمارات ووجود الکيان الإسرائيلي في الخليج الفارسي، لا تريد تركيا أيضًا تجاهل السوق الواسع لهذه المنطقة، وزيادة وجودها في دول مثل الإمارات العربية المتحدة.
اليابان: تأمين إمدادات الطاقة والعلاقات التكنولوجية
تعدّ الإمارات من أهم موردي النفط الخام لليابان، كما أن مضيق هرمز طريق مهم للغاية لمرور النفط الذي تحتاجه اليابان.
توفر أبو ظبي ما يقرب من 40٪ من النفط الخام المستورد لليابان، وتعمل العديد من الشركات اليابانية الخاصة في حقول النفط الإماراتية، كما شهدت زيارة رئيس وزراء اليابان، فوميو كيشيدا، إلى الإمارات العربية المتحدة، محورية الطاقة، وتحظى مصادر الطاقة المتجددة والتنوع في الصناعات الإماراتية باهتمام هذا البلد، وأعلن كيشيدا عن استعداد اليابان لتوفير تكنولوجيا إزالة الكربون خلال هذه الرحلة.
من ناحية أخرى، تحتاج اليابان إلى توفير واردات مستقرة من الطاقة، ويجب أن تتأكد من أن مضيق هرمز ليس مهددًا في منطقة تشهد نفوذ الصين(والتوترات التي سببتها الحرب في أوكرانيا)، كما كان التفاوض بشأن اتفاقية التجارة محل اهتمام الطرفين.
کذلك، فإن مشاركة اليابان في مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ COP28، الذي ستستضيفه دبي في نوفمبر، مهمة للغاية بالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة ومكانتها الدولية، بالنظر إلى دور اليابان النشط في تعزيز التدابير المناخية.
لأن اليابان تتماشى مع الهدف الاستراتيجي المتمثل في تحقيق صفر كربون بحلول عام 2050 الذي حددته دولة الإمارات العربية المتحدة، ولا ينبغي أن ننسى أن الإمارات تستضيف 4500 مواطن ياباني (معظمهم من المهنيين وأكبر عدد من المهاجرين اليابانيين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا).
تمّ خلال هذه الرحلة التوقيع على 23 اتفاقية ومذكرة تفاهم بين دولة الإمارات واليابان، وتهدف الاتفاقيات الثنائية إلى تعزيز التجارة الاقتصادية والاستثمار في مجالات الطاقة، وكذلك التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي والفضاء وحماية البيئة.
بشكل عام، يمكن القول إن اليابان تحاول تقديم نفسها كشريك في عملية التحول والتنمية في الخليج الفارسي، والتي تهتم بالتنمية الخضراء ولديها تقنيات متقدمة.
تشتهر طوكيو بموثوقيتها ودبلوماسيتها المتوازنة وخبرتها الفنية في الشرق الأوسط، بسبب الاستثمارات الكبيرة في البنية التحتية والطاقة والتكنولوجيا في المنطقة، وتعدّ حاجة الإمارات للتكنولوجيا وحاجة اليابان للطاقة وأمنها، محركاً للعلاقات بين البلدين.