الوقت- أدانت قاضية اسرائيلية مجندة في جيش الاحتلال لاعتدائها على سيدة فلسطينية بالضرب، ولكن هذه الإدانة ليست بسبب بطولة هذه القاضية وإنما بسبب جشاعة ما ارتكبته المجندة حيث لا يمكن عدم التحدث عنه أو إدانته على الأقل.
ولكن بدوره هاجم وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير القاضية التي أدانت الشرطية إسرائيلية لاعتدائها بوحشية على فلسطينية بمدينة القدس الشرقية عام 2021.
وفي وقت سابق، قضت محكمة الصلح الإسرائيلية بالسجن ثمانية أشهر مع وقف التنفيذ وغرامة 4 آلاف شيكل (1125 دولارا) بحق الشرطية أوريان بن كاليفا، على خلفية اعتدائها على شابة فلسطينية (25 عاما) بالبلدة القديمة من القدس في نوفمبر/تشرين الثاني 2021.
كما تم تغريم الشرطية المعتدية بمبلغ ألفي شيكل (562 دولارا)، تعويضا للشابة الفلسطينية التي تعرضت للاعتداء، وفق صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية.
لكن الشرطية بن كاليفا قالت عقب صدور الحكم: "ليكن واضحا أنني لا أعتزم دفع حتى 10 أغورات (الشيكل يساوي 100 أغورة)"، حسب المصدر ذاته.
وحسب لائحة الاتهام اعتدت الشرطية على الشابة الفلسطينية لدى مرورها قرب "باب الأسباط" أحد أبواب المسجد الأقصى، وسارعت لاستخدام القوة، حيث دفعت الشابة عدة مرات وشتمتها وأسقطتها على الأرض، فيما لم تمارس المجني عليها أي عنف ضد الشرطية.
وقال بن غفير في تغريدة على تويتر بعد الحكم: "قرار القاضية بالحكم على مقاتلة دافعت عنا جميعا ضد مثيري الشغب بالسجن مع وقف التنفيذ، أمر شائن".
وأضاف الوزير الذي يتزعم حزب قوة يهودية: "للأسف تغلبت أجندة القاضية (يتهم اليمين الإسرائيلي القضاة بالانتماء إلى اليسار) على المهنية، والقاعدة القانونية تتجنب الإدانة بمثل هذه القضية".
ومضى قائلا: "يثبت هذا القرار مرة أخرى أن هناك حاجة لإصلاح حقيقي للنظام القضائي وليس إصلاحا شكليا، الإصلاح الحقيقي الآن".
وكان بن غفير يشير إلى خطة التعديلات القضائية المثيرة للجدل التي طرحتها حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وتعتبرها "إصلاحات قانونية".
وتقول الحكومة إن الخطة تهدف "لإعادة التوازن بين السلطات (القضائية والتشريعية والتنفيذية)، فيما تعتبرها المعارضة "تهدف إلى إضعاف القضاء وخاصة المحكمة العليا الإسرائيلية وتحوّل إسرائيل إلى ديكتاتورية".
وظلت المعارضة منذ 24 أسبوعا تنظم احتجاجات أسبوعية غير مسبوقة في عموم إسرائيل للمطالبة بوقف هذه المشاريع.
القضاء أداة للتمويه
لا يزال الفلسطينيون يرزحون تحت نير نظام عسكري إسرائيلي يقتل ويسيء وينكل بهم منذ نحو 50 عاماً، دون أن يترك لهم وسيلة للمطالبة بالمساءلة. ويعتبر الجهاز الوحيد الذي يستطيع الضحايا من خلاله تحقيق العدالة مهزلة محضة، إذ يتفاخر الجيش الإسرائيلي بتعيين النيابة العامة العسكرية للتحقيق في مئات الحوادث التي تعرض فيها الفلسطينيون للأذى على أيدي الجنود الإسرائيليين. أما على أرض الواقع، لا تعتبر النيابة العامة العسكرية سوى أداة للتمويه على الجرائم التي ترتكبها القوات الإسرائيلية وحماية الجيش من المساءلة.
يصاب المرء في بعض الأحيان بالدهشة جراء اللامبالاة التي تظهرها سلطات التحقيق، فعلى سبيل المثال، تظهر التقارير أن الحالات التي يفقد فيها الجيش الملفات أكثر بكثير من الحالات التي يقوم بتوجيه التهم فيها. منذ عام 2000 تم رفع 739 قضية عن حوادث قام فيها جنود إسرائيليون بقتل أو الإساءة أو ضرب الفلسطينيين أو استخدامهم كدروع بشرية أو إلحاق الضرر بممتلكاتهم. وتظهر التحليلات أنه تم تصنيف 44 قضية على أنها "ملفات مفقودة". ولم تقم المحكمة بالنظر إلا في 25 قضية أي ما نسبته ثلاثة بالمئة، في حين لم يتم التحقيق أبداً في 182 قضية، كما أغلقت التحقيقات في 343 قضية، أي النصف، ولم يتم اتخاذ أي إجراء آخر.
عملية التحقيق بطيئة إلى حد لا يطاق، حتى أن قرار فتح التحقيق من عدمه يستغرق في كثير من الأحيان وقتاً طويلاً. وعندما يتم فتح التحقيق، يقتصر الأمر على إجراء مقابلات مع الجنود الذين لا يُطعن في شهاداتهم المتناقضة. وعند الانتهاء من عملية التحقيق وسماع شهادات الجنود، تقوم النيابة العامة العسكرية عادةً بإيجاد طريقة لتفسير الأدلة أو القوانين على نحو يضمن إغلاق القضية أو المماطلة بها إلى أجل غير مسمى.
تعتبر نتيجة التحقيق تمثيلية هزلية تبدو ظاهرياً وكأنها تتمتع بكل خصائص الجهاز القضائي الفعال، فهناك محققون وهناك نيابة عامة، وتقوم المحكمة بسماع الشهادات والنظر في الأوراق والدخول في إجراءات طويلة. ويسمح هذا المظهر من مظاهر الجهاز القضائي الفعال للمسؤولين الإسرائيليين بالادعاء بأن إسرائيل تقوم بتطبيق القانون، ويضفي على الاحتلال صبغة الإنصاف، في إسرائيل وخارجها.
يجب على الجميع أن يقوم بواجباته لفضح الجهاز القضائي وما هو عليه: ورقة التوت التي تغطي عورة الاحتلال.
القضاء الدرع الواقي
أثارت محاولة رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينيّة المتطرّفة لتعديل النظام القانونيّ والقضائيّ الإسرائيليّ جذريًّا احتجاجات واسعة النطاق في إسرائيل، وخرج مئات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع تحت راية الدفاع عن الديمقراطيّة الإسرائيليّة؛ وبدأ في وقت مبكّر من الاحتجاجات رفع لافتات في جميع أنحاء إسرائيل تقول «محكمة العدل العليا هي الدرع الواقي لجنودنا»، واستمرّت فكرتها طوال الاحتجاجات، وأعلنت مجموعة من جنود الاحتياط رفضهم للخدمة، على الأرجح خوفًا من فقدان حماية المحكمة، وهو ما كان أهمّ وأخطر أشكال الاحتجاج.
يأتي التعبير عن المحكمة العليا بجملة «الدرع الواقي» في محلّه تمامًا، حيث يعدّ استقلال القضاء الإسرائيليّ عاملًا رئيسًا في منع المساءلة الدوليّة عن جرائم إسرائيل ضدّ الفلسطينيّين في المناطق المحتلّة وما قبلها.
إذاً لن تنظّم معظم أنظمة المحاكم الدوليّة في القضايا الأجنبيّة إلّا إذا أمكن إثبات أنّ نظام البلد نفسه غير قادر على الفصل بشكل محايد في مزاعم جرائم الحرب.
يثير الوضع سؤالًا تجرّأ قلّة في إسرائيل على طرحه: حتّى دون إصلاحات نتنياهو، هل قام القضاء بما يكفي للتعامل مع انتهاكات القانون الدوليّ؟ إلى جانب عملها الداعم للحقوق المدنيّة، هل يعطي بتّ المحاكم الإسرائيليّة في القانون الدوليّ قشرة من الشرعيّة لجرائم إسرائيل ضدّ الفلسطينيّين؟ يطرح هذه التساؤلات بعض الإسرائيليّين التقدّميّين والعديد من الفلسطينيّين.
كان مندلبليت، المدّعي العامّ السابق، صريحًا للغاية في شرح سبب احتياج البلاد إلى أن تكون محاكمها مستقلّة وقال محذّرًا: «في اللحظة الّتي لا ينظر فيها إلى نظام العدالة في إسرائيل على هذا النحو، ستفقد إسرائيل الشرعيّة الدوليّة بسبب عمليّاتها العسكريّة، ولن تكون محميّة بعدها من الاتّهامات بارتكاب جرائم حرب»، وقد توضع توقّعات مندلبليت أمام الاختبار قريبًا، وخصوصًا مع وجود دعاوى فلسطينيّة معلّقة أمام المحكمة الجنائيّة الدوليّة في لاهاي، وقد يؤدّي فقدان مظهر الاستقلال للمحكمة العليا الإسرائيليّة إلى تعريض الجنود الإسرائيليّين والقادة العسكريّين وقادة قوّات الأمن وحتّى الوزراء الإسرائيليّين، في الماضي والحاضر، لمحاكمات في دول أجنبيّة.
يمكن أن ترقى مثل هذه القضايا إلى مستوى محاسبة إسرائيل على عدد من جرائم الوخيمة، مثل التعذيب: طلبت اللجنة العامّة لمناهضة التعذيب في إسرائيل، بالتعاون مع الاتّحاد الدوليّ لحقوق الإنسان في يونيو الماضي، من المدّعين العامين للمحكمة الجنائيّة الدوليّة إدراج جريمة التعذيب ضمن تحقيقهم في جرائم الاحتلال الإسرائيليّ لفلسطين.
ومسألة التعذيب في إسرائيل ليست إلّا مسألة واحدة من بين عدّة أسباب تستدعي التدخّل القانونيّ الدوليّ؛ نظرًا لمعاملة إسرائيل للفلسطينيّين، مثل: الاحتلال الإسرائيليّ المطوّل للضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، واستمرار نظام الفصل العنصريّ، وجرائم الحرب الإسرائيليّة في غزّة. تقدّم معاملة المحاكم الإسرائيليّة مع قضايا التعذيب والجرائم الأخرى نظرة حقيقيّة عن مدى حياديّة القضاء في الجرائم ضدّ الفلسطينيّين، وعلى المزاعم الإسرائيليّة بالديمقراطيّة الّتي ظهرت في الاحتجاجات الأخيرة.
من الضروري توثيق الانتهاكات الاسرائيلية لحقوق الانسان في الأراضي المحتلة والإبلاغ عنها، وجمع الشهادات والأدلة، والاجتماع بأسر الضحايا، ولكن يجب الانتباه ألّا نكون جزءاً من منظومة طمس الحقائق التي يتبناها نظام تطبيق القانون العسكري.
وللأسف، لن يسرّع هذا القرار من إجراءات تحقيق العدالة، لكن على الأقل لن تعاني أسر الضحايا أملاً كاذباً بأن يتأتى عن "العدالة" العسكرية أي مظهر من مظاهر الصدق. وستتوافر فرص جديدة عندما نسمي نظام تطبيق القانون العسكري بالاسم الذي يليق به بالفعل، وعندما نحرم الاحتلال من إحدى أكثر استراتيجياته الدعائية فعالية حتى الآن.