الوقت- يعاني كيان الاحتلال من الإحباط وخيبة الأمل الممزوجة بالقلق بسبب عدم تقدم قطار التطبيع مع دول عربية وإسلامية أخرى، لأسباب عديدة منها أن العرب أكدوا مرة أخرى أنه لا يمكن التقدم خطوة واحدة إلى الأمام دون حل للقضية الفلسطينية، والأمر الثاني، الذي لا يقل أهمية، يكمن في أن الصهاينة فهموا أن الشعوب العربية ترفض التطبيع جملةً وتفصيلاً، وأن تطبيع الأنظمة لا يجعل الكيان شرعيًا في الشرق الأوسط، وأكبر دليل على رفض إسرائيل كان المونديال الأخير في قطر.
عُلاوةً على ذلك، واقتناعًا من قادة الكيان بأنّ المملكة العربيّة السعوديّة باتت رأس الحربة في الوطن العربيّ، سارع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بُعيْد انتخابه للولاية السادسة بالتبجّح بأنّ التطبيع مع المملكة بات قاب قوسيْن أوْ أدنى، ولكن الحقائق على أرض الواقع أثبتت العكس، فالسعوديّة أبرمت اتفاقًا مع إيران برعاية الصين الشعبيّة، وابتعدت أكثر فأكثر عن الخطط الإسرائيليّة، وجاء مؤتمر القمّة في جدة ليؤكِّد مركزيّة القضية الفلسطينيّة في الأجندة الكلّ عربيّة.
إسرائيل دولة منبوذة بشكل استثنائي، وباستثناء علاقاتها مع يهود العالم، فإنها لا تحظى بعلاقات إثنية أو دينية مع أي أمة أخرى. وإذا كان من الممكن تفهّم هذا الكلام بين إعلان قيام إسرائيل في 1948 حتى 1967، حيث كانت الجهود العربية الداعية إلى مقاطعة إسرائيل تحقّق نجاحات دبلوماسية جزئية على المستوى الدولي، فقد أخذت العزلة طابعا مؤسّسيا منذ انضمام إسرائيل للأمم المتحدة عام 1949، حين نجحت الدول العربية في منع قبول إسرائيل في عضوية المنطقة الآسيوية في الأمم المتحدة، وهذا أعاق انضمام إسرائيل إلى المؤسسات الدولية المرتبطة بالأمم المتحدة، لأن الانضمام إليها كان مرتبطا بأن تكون إسرائيل منضمّة إلى منطقتها. وما يدفع إلى القول هنا إن تلك المقاطعة كانت جزئية أن إسرائيل في 1967 كانت تقيم علاقات دبلوماسية مع 98 دولة، وهو ما يمثل نسبة 80% من دول العالم في ذلك الوقت. وإذا كان من الممكن فهم حديث العزلة هذا قبل عام 1967، فكيف يمكن فهمه بعد هذا التاريخ الذي كانت إسرائيل فيه تقيم علاقات دبلوماسية معلنة مع أكثر الدول، هذا غير العلاقات السرّية بالطبع مع دول وأقليات عديدة كانت تعلن مقاطعتها إسرائيل، وبعضها كانت دولا أو أقليات عربية وإسلامية؛ ومن هذه الأقليات أكراد العراق، وموارنة لبنان، ومسيحيو جنوب السودان.
الحقيقة أن انتصار إسرائيل في حرب 1967 لم يُحدث تغييرا في نظرة إسرائيل إلى نفسها دولة معزولة، رغم أنها عمليا لم تكن كذلك حينها. كان الشعور بالعزلة تعبيرا عن حالةٍ نفسيةٍ لا تنفصل عن الشخصية الإسرائيلية، وقد عبّر الحاخام والدبلوماسي، يعقوب هرتسوغ، الذي خدم في مناصب سياسية عدة بين عامي 1948 – 1972 عن ذلك المعنى بشكل جيد في 1968 بقوله "هذه العزلة لا تجعلنا نفهم سبب وجودنا فحسب، ولا حقنا في الوجود، إنها تتخطّى ذلك لتجعلنا ندرك قدراتنا. إن هذه العزلة، التي هي من طبيعة الشعب اليهودي، هي المفتاح لأن نؤمن بأنفسنا، وأن نترجم هذا الإيمان إلى عمل".
مفهوم العزلة لم يكن خاصّا بتيار سياسي دون غيره، فقد كان مفهوما متوارثا لدى اليمين واليسار على السواء
قيلت هذه الكلمات بعد حرب 1967، أي بعد أن تشعبت علاقات إسرائيل الدولية، وهذا يعني أن العزلة صفة أساسية من صفات الشعب اليهودي عبر تاريخه، وهو المعنى الذي أشار إليه شيمون بيريس في 1970، حين كتب واصفا تلك العزلة بأنها "العزلة التي تميز تاريخ الشعب اليهودي". وقد كانت غولدا مائير أكثر من عبّر عن هذا المعنى بشكل حاد في مذكّراتها، حين كتبت "ليس لنا هنا عائلة، ولا أحد يشاركنا ديننا، ولا لغتنا ولا ماضينا، ويبدو وكأن العالم كله قد اجتمع في تكتلاتٍ نشأت لأن الجغرافيا والتاريخ قد أعطيا هذه التكتلات مصالح مشتركة، لكن جيراننا، وحلفاءنا المفترضين، لا يريدون أي اتصال معنا. وفي الحقيقة، نحن لا ننتمي لأي مكان، ولا لأي أحد سوى أنفسنا". ويبدو أن كلمات غولدا مائير كانت صدى لكلمات بن غوريون التي ألقاها عام 1971 في الجلسة الاحتفالية التي عقدها الكنيست احتفالا به لبلوغه عامه الخامس والثمانين "نحن شعبٌ يسكن منعزلا، جيراننا القريبون إلينا من ناحية الجغرافيا، وحتى من ناحية العرق واللغة، هم للأسف ألد أعدائنا على الإطلاق، أما حليفنا الأمين الوحيد فهو الشعب اليهودي".
كان مفهوم العزلة مصاحبا كذلك للعاملين في مجالي الدفاع والاستخبارات؛ فقد كتب رئيس الموساد 1998-2002، إفرايم ليفي"في الأعوام الثلاثين الأولى من قيامها، كانت إسرائيل معزولة في قلب المنطقة الشرقية من الشرق الأوسط، ولم يكن لديها أي اتصال مباشر أو واسع مع منافسيها"، بل إن هذا الشعور العميق بالعزلة جعل يوسي ألبر، وهو أحد رجال الموساد، يؤلف كتابا عنوانه "الدولة المعزولة".
ومن الضروري هنا التأكيد على أن مفهوم العزلة لم يكن خاصّا بتيار سياسي دون غيره، فقد كان مفهوما متوارثا لدى اليمين واليسار على السواء، وقد كتب إفرايم سانيه في مذكّراته أن أباه موشيه سانيه، وهو من مؤسسي حزب المابام (حزب العمال المتحدين)، وأحد زعماء الصهيونيين العموميين، ثم الحزب الشيوعي، كان يقول "على اليهودي على مدار الأجيال أن يرى نفسه وكأنه قد خرج من معسكرات الاعتقال في أوشفيتس". وقد علق إفرايم على ذلك بأن أباه كان يقصد "أن المحرقة التي أظهرت أننا شعب ضعيف، معزول وبلا دولة ومشتت بين الشعوب يجب أن تكون عبرة أمام أعيننا دائما، حتى وإن كنا نمتلك دولة وجيشا".
اتفاقية ابراهام والخروج من العزلة
إذا كانت اتفاقيات السلام المتتابعة، بداية من كامب ديفيد ومرورا بوادي عربة وأوسلو وصولا إلى اتفاق أبراهام، قد عملت على إنهاء هذا الصراع، ودمج إسرائيل في المنطقة في تحالفاتٍ غير مسبوقة، فإن اختفاء الحديث عن هذه العزلة يصبح أمرا طبيعيا. وقد عبر رئيس الحكومة الأسبق، إسحاق رابين، عن هذا المعنى بمنتهى الوضوح بعد اتفاق أوسلو؛ حين انتقد شعور العزلة الذي رافق إسرائيل منذ فجر تأسيسها بقوله: "لم نعد بالتأكيد شعبا معزولا، ولم يعد من الصواب أن نعتبر العالم كله ضدنا، ينبغي أن نتخلّص من إحساس العزلة الذي يتملكّنا منذ خمسين عاما".
ومع تنامي العلاقات العربية الإسرائيلية، وخصوصا بعد اتفاق أبراهام، تحوّل الحديث من نفي الشعور بالعزلة، إلى التأكيد على أن إسرائيل لم تعد تلك الدولة المعزولة عن محيطها، وهذا يكشف إلى أي مدى كانت هذه الاتفاقيات في صالح إسرائيل، وأن هذه الاتفاقيات كانت بمثابة العلاج الذي وفّر لإسرائيل وسيلة للتداوي من عقدةٍ نفسيةٍ قديمةٍ لم تتمكّن يوما من معالجتها طوال تاريخها.
التحالف السعودي الإيراني أعاد إسرائيل إلى العزلة
نداف تامير الرئيس التنفيذي لمجموعة (جي ستريت) الداعمة للكيان في الولايات المتحدة، فقد أكّد أنّ “الوقت يمرّ أمام أعين الإسرائيليين وما زالوا مشغولين بعمليات الاغتيالات، وفيما تخلق السعودية وإيران والإمارات وسوريّة وروسيا والصين واقعًا استراتيجيًا جديدًا، فإن إسرائيل تركز على المواجهات التكتيكية، والابتعاد عن الولايات المتحدة، في حين أننا أمام جملة من المتغيرات الاستراتيجية التي تحدث هذه الأيام من حولنا في منطقة الشرق الأوسط“.
وأضاف إنّه “في مواجهة هذه التطورات الإقليميّة لم تعمل إسرائيل بشكلٍ استراتيجيٍّ، بل تخلّت بشكلٍ شبه كاملٍ في السنوات الأخيرة عن فكرة التعامل مع التغيّرات الإقليميّة العميقة، وركّزت على التكتيكات، مع أنّ اتفاقيات التطبيع الموقعة قبل ثلاث سنوات كخطة بديلة لمنع ضمّ الضفة الغربية الذي خطط بنيامين نتنياهو للحصول عليه من (صفقة القرن) لدونالد ترامب، هي آخر مرة شاركت فيها إسرائيل في التحركات الاستراتيجية الإقليمية“.
ولفت إلى أنّه “منذ ذلك الحين تقدّم الشرق الأوسط، وتخلّفت إسرائيل عن الركب، تصديقاً لتصريح هنري كيسنجر قبل سنوات إنّ (إسرائيل ليس لديها سياسة خارجية، لها سياسة داخلية فقط)، لكن سياسة نتنياهو الحالية تقودنا أكثر من أيّ وقتٍ مضى إلى طريقٍ سياسيٍّ دون مخرجٍ، سواء لكونه محاصرًا، باختياره أوْ بحكم الضرورة، في حكومةٍ يمينيّةٍ متطرفةٍ، بدليل إلغاء زيارته للإمارات، وعدم دعوته للبيت الأبيض، ووجد نفسه يبتعد عن الأمريكيين، وهم يفقدون الاهتمام به، فيما تفقد دول المنطقة اهتمامها بإسرائيل أيضًا”.
وأكد في الخلاصة أنّه “بينما شكلّت أعظم نقاط قوة الاحتلال هي الجسر المؤدّي للحليف الولايات المتحدة، فإنّ إسرائيل تصر على البقاء في مكانها دون مفاوضاتٍ مع الفلسطينيين، أوْ خطابٍ إقليميٍّ مع العرب، فإنّ النتيجة هي المزيد والمزيد من الأزمات التكتيكيّة، أمام المزيد من العمليات والاغتيالات التي لا تقودنا لأيّ مكانٍ، لأنّه لا توجد استراتيجيّة خروج لإسرائيل من العمليات العسكرية والواقع الدامي اليومي، في حين أنّ دول المنطقة تواصل تجديد العلاقات القديمة، ويقيمون تحالفات جديدة، ويخلقون واقعًا جديدًا لا تعتبر إسرائيل جزءًا منه“.