الوقت - بعد سنوات من التوترات والخلافات السياسية الشديدة بين روسيا وأوكرانيا، شنت موسكو، التي اعترفت سابقًا من جانب واحد باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك المعلنتين بشكل احادي، عملية عسكرية واسعة النطاق في عمق الأراضي الاوكرانية.
في الأيام الثلاثة التي انقضت منذ بدء العملية العسكرية الروسية على الأراضي الأوكرانية، تمكن الروس من إحراز تقدم كبير، ولا توجد أي دليل على الدعم العسكري الغربي لكييف. ولم يلاحظ المراقبين والمحللين مقاومة تذكر للعمليات العسكرية الروسية، حيث أفادت وسائل إعلام روسية عن وصول مركبات مدرعة روسية إلى الضواحي الشمالية لكييف. في ظل هذه الظروف، من المهم للغاية فهم أهداف العملية العسكرية الروسية على الأراضي الأوكرانية والحلم الذي يراود بوتين عن هذا البلد.
الإذلال التاريخي لروسيا بانهيار الاتحاد السوفيتي
بالتأكيد لا يمكن فصل الأزمة الأوكرانية الحالية عن التوترات التاريخية والواسعة النطاق بين روسيا والعالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة. في الواقع، من ناحية أخرى، يجب اعتبار أزمة أوكرانيا جزءًا من اللغز الأكبر في المواجهة بين الغرب وروسيا في أوروبا الشرقية، ومن ناحية أخرى، لا تقتصر هذه الأزمة على التطورات الأخيرة والصراع الروسي الغربي حول أوكرانيا، ولكن الدليل يمكن إيجاده في الإذلال الذي عاشه الروس بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في العقد الأخير من القرن العشرين. حيث بقيت في ذاكرتهم تلك الهزيمة التاريخية الكارثية على يد الغرب (بسبب تحولها من قوة عالمية عظمى إلى دولة من العالم الثالث).
في السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي، عندما وصلت حكومة موالية للغرب إلى السلطة في روسيا، عانى شعبها من ظروف اقتصادية صعبة. في الواقع، مثل معظم الجمهوريات السوفيتية السابقة، دخلت روسيا حقبة ما بعد الاتحاد السوفيتي في حالة من الفوضى الكبيرة والتخبط الاقتصادي. في عام 1991 وحده، انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنحو السدس، وكان عجز الميزانية حوالي ربع الناتج المحلي الإجمالي، وأدى تحديد أسعار معظم السلع إلى ندرتها. حتى عام 1991، لم يكن هناك سوى عدد قليل من العناصر الأساسية متوفرة في متاجر بيع الخرده القديمة، وكان نظام توزيع البضائع بأكمله على وشك الانهيار. وبالنتيجة سقطت الصناعة السوفيتية بعدما كانت واحدة من أكبر الصناعات في العالم. في غضون ذلك، امتنع رؤساء الولايات المتحدة حتى عن دعم تلك الحكومة الروسية القريبة من الغرب، بل على العكس ذهبوا الى إضعاف القوة العسكرية والسياسية لروسيا. إن فهم تأثير هذا الإذلال التاريخي على سياسات بوتين، لا سيما خلال العقد الماضي، أمر ضروري لفهم رغبة روسيا الجريئة لاستعادة قوتها العسكرية والاقتصادية ومكانتها الدولية السابقة، ولمواجهة السياسات التدخلية والأحادية التي تقودها الولايات المتحدة للمنافسات الجيوسياسية في جميع أنحاء العالم، نحتاج لتحليل الوضع كخطوة أولية.
وعلى ذات السياق، نقلت صحيفة نيويورك تايمز عن مادلين أولبرايت، وزيرة خارجية الولايات المتحدة من 1997 إلى 2001، قولها في نيويورك تايمز "أصبحت أول مسؤول أمريكي كبير يزور فلاديمير بوتين في منصبه الجديد كرئيس مؤقت لروسيا أوائل القرن الحادي والعشرين، وادعى أنه يعرف سبب سقوط جدار برلين، لكنه لم يتوقع انهيار الاتحاد السوفيتي بأكمله، لقد خجل بوتين مما حدث لبلاده وهو عازم على استعادة عظمتها. "
بانتظار ساعة الصفر
الإذلال التاريخي للروس كشعب وللأفراد على مستوى بوتين بسبب هزيمة روسيا أمام الغرب على مدى العقدين الماضيين، وهم يرون في نفس الوقت جهود الناتو للتوسع شرقًا وتشديد الحصار على موسكو، جعل قادة الكرملين مصممين على مواجهة الغرب بشكل كامل ومنع تكرار هزيمة الاتحاد السوفياتي. في الواقع، أدت محاولة الغرب للضغط على روسيا من خلال توسع الناتو في أوروبا الشرقية وحتى إنشاء قواعد عسكرية أمريكية في المناطق الروسية النفوذ سابقا في آسيا الوسطى إلى تقويض موقف المسؤولين الروس من المسؤولين الغربيين، ورؤيتهم لحاجة إستعادة القوة الروسية لمواجهة الهيمنة الغربية. بعبارة أخرى، سعى بوتين دائمًا إلى الحصول على فرصة لجعل حلمه في تعويض الهزيمة السوفيتية حقيقة واقعة. ولكن لماذا تبنى بوتين الزخم الحالي لعمليات عسكرية واسعة النطاق، على الرغم من أن مشكلة توسع الناتو إلى الشرق والأزمة الأوكرانية ليسا جديدين؟ الاعترافات المتكررة للسياسيين والاستراتيجيين الأمريكيين ببداية حقبة التراجع وعدم القدرة على مواصلة دور الشرطة الدولية، إلى جانب الانسحاب الكارثي من أفغانستان وتصاعد الأزمات الداخلية في المجتمع الأمريكي، جعل بوتين يرى في ذلك فرصة استثنائية لهزيمة خطة الناتو للتوسع شرقًا من خلال عمل عسكري مكثف.
أهداف روسيا والسيناريوهات المستقبلية لأوكرانيا
بشكل لا يصدق، وصلت العمليات العسكرية الروسية إلى العاصمة الأوكرانية كييف، هذا التقدم العسكري الهائل، الذي قوبل بانتقادات دولية واسعة النطاق، يسعى لتحقيق أهداف يمكن توقعها في مجموعة متنوعة من السيناريوهات. السيناريو الأول هو الاحتلال العسكري الكامل لأوكرانيا هذا السيناريو غير مرجح للغاية ويبدو غير مرجح بالنظر إلى موقف روسيا، لكن من المحتم أن ينوي بوتين إضعاف القدرات العسكرية والنووية لأوكرانيا تمامًا بأي طريقة ممكنة، مما يجعلها كيانًا لا يشكل تهديدًا لروسيا وغير قادر على اتخاذ قرار بشأن عضوية الناتو المستقبلية. يعتمد السيناريو الثاني على تحليل العمل العسكري الروسي بضمان الاستقلال الكامل لجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك وإبعادها عن التهديدات والأعمال العسكرية من قبل كييف. في هذا السيناريو، يتمثل الهدف الاستراتيجي لإجراء العمليات العسكرية في أوكرانيا في إرسال رسالة قوية ونهائية إلى دول أوروبا الشرقية التي تنوي الانضمام إلى الناتو، وكذلك إلى الناتو في جهوده للتوسع إلى حدود روسيا. وفي هذا الصدد، حذرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أمس من أنه إذا كانت فنلندا أو السويد تنويان الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي العسكري، فإنهما سيواجهان رد فعل خطير من موسكو. من المؤكد أن فصل المنطقتين عن أراضي أوكرانيا كإجراء عقابي ضد كييف يجعل تحذيرات روسيا المهددة لدول أوروبا الشرقية حقيقية تمامًا ولها دعم عملي. السيناريو الثالث هو توقع أن تواجه مقاطعتا دونيتسك ولوهانسك مصيرًا مشابهًا لشبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا في عام 2014 بعد استفتاء وافق عليه 96٪ من سكان المنطقة. تتمتع ولايتا دونيتسك ولوهانسك أيضًا بإمكانية تكرار مثل هذا السيناريو، لوجود عدد كبير من المتحدثين بالروسية.