الوقت- بعد الاعتراف بالحقيقة الأساسية، قرر المستشار القضائي لحكومة الكيان المحتل أبيحاي مندلبليت، إغلاق ملف التحقيق ضد ضباط المخابرات العامة (الشاباك)، المشتبه بأنهم مارسوا عملية تعذيب قاسية ضد الأسير الفلسطيني سامر العربيد، بغرض سحب اعترافات منه حول مكان وجود أسلحة تابعة لخلية فدائية ينتمي إليها، حول العملية التي قُتلت فيها فتاة يهودية في شهر أغسطس (آب) 2019.
جاء هذا القرار ليس بسبب عدم وجود تعذيب، بل إن المستشار يعترف ويوصي باستخلاص العِبر للمستقبل، لكنه يمتنع عن محاكمة المسؤولين. وكتب مندلبليت، في بيان له، يوم الأحد الماضي، إن دائرة التحقيق مع رجال الأمن في وزارة القضاء (ماحاش)، أجرت تحقيقاً تحت التحذير مع عدد من محققي «الشاباك» بشبهة استخدام القوة بشكل غير قانوني، وتمت جباية إفادات من شهود، وضبط وثائق والحصول على تقارير من معهد الطب الشرعي.
وبعد معاينة مواد الأدلة، ووفقاً لتوصية طاقم المحققين وتقارير من جهات في النيابة العامة التي رافقت التحقيق في «ماحاش»، قرر المستشار القضائي للحكومة، حفظ ملف التحقيق، لغياب قاعدة أدلة على ارتكاب مخالفة. وفي الوقت ذاته، أوعز المستشار القضائي للحكومة بالعمل من أجل استخلاص العِبر المطلوبة.
وكان سامر العربيد (47 عاماً)، المعروف بكونه أحد القادة البارزين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في منطقة رام الله، قد اعتُقل بعد شهر من تنفيذ عملية «عين بوبين» التي تم فيها تفجير عبوة ناسفة عن بُعد في سيارة مستوطنين جاؤوا للاستجمام، فقُتلت رينا شنراف (17 عاماً) وأُصيب والدها وشقيقها بجراح. وعلى أثر ذلك، خرج المستوطنون يطالبون بالرد على العملية بحملة استيطان واسعة في المنطقة.
وعقد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، جلسة طارئة قال فيها لقائد «الشاباك»، نداف أرغمان، إنه يتوقع القبض على منفذي العملية في أسرع وقت. وفي «الشاباك» نفسه أعلنوا حالة طوارئ وعدّوا العملية خطيرة أكثر بكثير مما يبدو، لكونها منطقة فلسطينية مسيحية، غالبية شبابها في الخارج. وتساءلوا عن سبب اختيار المنطقة لعملية كهذه.
وبعد تحقيقات واسعة لشهر كامل، اعتُقل أكثر من مئة شخص في المنطقة، بينهم سامر العربيد. ووفق «الشاباك»، كانت الشكوك تساوره بأن الخلية تنوي تنفيذ مزيد من العمليات التي كان يجب منعها، وكان العربيد صامتاً في التحقيق يرفض التفوّه بأي كلمة. فلجأوا إلى «الضغط الجسدي الشديد عليه». ووفق المؤسسات الفلسطينية الحقوقية، فإن العربيد تعرض للتعذيب الشديد الذي كاد يُنهي حياته.
وقد تعرّضَ للضرب بأعقاب بنادق من جنود القوات الخاصة، حال اعتقاله من بيته في رام الله. وفي مركز توقيف المسكوبية في القدس، تعرض أياماً طويلة للتعذيب الجسدي والنفسي الشديدين، وتم تحويله إلى مستشفى «هداسا»، بعد تدهور وضعه الصحي بشكل خطير وفقدانه الوعي والشك بأنه أُصيب بنوبة قلبية. وفي «هداسا»، تم العثور على كسور متعددة في ضلوعه، وكتب طبيب المستشفى في تقريره أنه لاحظ وجود العديد من الكدمات والعلامات على أطراف الأسير العربيد وفي منطقتي الرقبة والصدر، وأنه بدأ يعاني من فشل كلوي وصار يحتاج لإجراء غسيل كلى متواصل.
وأصدرت كل من منظمة العفو الدولية (أمنستي) ومجموعة حقوقيين دولية وخبراء مستقلّين في الأمم المتحدة، في حينها، بياناً يدين السلطات الإسرائيلية على تعذيبه. فاضطرت السلطات الإسرائيلية إلى إجراء تحقيق، غير أن هذا التحقيق، طال، ورفضت المحكمة السماح بالتدخل الخارجي في عمل النيابة، ومنعت أي نشر حول الموضوع. وقبل أربعة أشهر، توفيت والدة العربيد، أليس رزوق، غير أن السلطات منعته من المشاركة في الجنازة أو حتى إلقاء نظرة وداع على جثمانها في الكنيسة.
وبنشر قرار المستشار القضائي للحكومة، تقرر التحفظ على الملف ومنع نشر تفاصيله. ورحب رئيس «الشاباك»، أرغمان، بالقرار محيياً محققي «الشاباك» الذين نفّذوا مهمتهم بمهنية، «وبعملهم أنقذوا حياة إسرائيليين كثيرين». وأصدرت (اللجنة العامة لمناهضة التعذيب في إسرائيل)، بياناً، قالت فيه إن «قرار مندلبليت إغلاق ملف التحقيق ضد محققي الشاباك وعدم تقديم أي منهم للمحاكمة، فضيحة». وإن القرار «أعطى المستشار القضائي الضوء الأخضر لاستخدام التعذيب، وأعطى حصانة لمحققي الشاباك ضد تقديمهم للمحاكمة، حتى في الحالات التي وصل فيها المعتقلون إلى حافة الموت.
وقال نادي الأسير الفلسطيني، إن قرار سلطات الاحتلال الإسرائيلي، إغلاق ملف التحقيق في قضية الأسير سامر العربيد، تشريع جديد لسياسة التعذيب القائمة بحق الأسرى والمعتقلين. وأكد رئيس النادي قدورة فارس في بيان، أنه لا يمكن أن ننتظر من الاحتلال الذي شرّع التعذيب على مدار العقود الماضية، وابتكر أدوات جديدة لممارسته، سوى هذه النتيجة، وخاصة في ظل الصمت الدولي الذي أعطى الضوء الأخضر له لممارسة مزيد من الجرائم.
وعلى ما يبدو أن مؤسسات الاحتلال (السياسية والتشريعية والقضائية والأمنية) متورطة، وأبرز مثال على ذلك محاكمه التي شكلت تاريخيا وما تزال، ذراعا أساسيا في ترسيخ مزيد من الانتهاكات والسياسات، ومنها التعذيب الممنهج بحق المعتقلين. كما أن قرار التعذيب الذي جرّمه القانون الدولي بكل أشكاله، هو قرار لدولة الاحتلال القائمة أساسا على مخالفة كل ما شرّعه القانون الدولي، وهذا الأمر يفتح مزيد من التساؤلات عن دور المنظومة الدولية القانونية، في وضع حد لانتهاكات الاحتلال جديا.
كما أن مؤسسات الاحتلال تتبادل الأدوار في محاولة لدرء خطر ملاحقتها مستقبلا حول جرائهما، وبالتالي تلجأ إلى التحقيق فيها أو القيام بإجراءات داخلية، في سبيل إغلاق الباب أمام أي محاولة لمحاسبتها دوليا. حيث يجب تشكيل طاقم من المحامين، للتوجه للمحكمة العليا للاحتلال في قضية الأسير العربيد، ومتابعة القضية على المستوى الدولي، من باب مشاغلة محاكم الاحتلال، وليس أملا في تحقيق أي نتيجة.
هذا وتعييد قضية العربيد مجددا طرح تساؤل عن الدور الوطني والشعبي تجاه قضية الأسرى ومصيرهم، وهم يتعرضون لكل أشكال الانتهاكات على مدار الساعة بطرق وأساليب مختلفة، مطالبا بمراجعة كيفية التوجه والتعامل مع محاكم الاحتلال بكل مستوياتها.