الوقت- في الشهر الماضي، وفي أعقاب الانفجار المدمر في مرفأ بيروت، ازداد النشاط الدبلوماسي الفرنسي، وتمثل زيارة الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" للبنان وزيارته اللاحقة إلی العراق، سلسلةً من جهود باريس للعب دور أوسع في الساحة السياسية لمنطقة غرب آسيا.
وفي الواقع، يسعى الفرنسيون إلى إحياء حضورهم المتضائل وتعظيم تأثيرهم الثقافي ومصالحهم السياسية والاقتصادية.
سنحاول في هذا المقال دراسة بعض دوافع وأرضيات إجراءات قصر الإليزيه لتوسيع وجوده في لبنان والعراق.
إحياء الدور التاريخي لفرنسا
كانت منطقة شمال إفريقيا والشامات، وخاصةً لبنان وسوريا، جزءًا من المستعمرات أو الأراضي التي احتلتها فرنسا لفترة ما، لذا لا يمكن تجاهل الدور التاريخي والثقافي والسياسي والاقتصادي لباريس في هذه المناطق والبلدان.
وبالإضافة إلى هذا الوجود القديم، فإن موقع لبنان الاستراتيجي والجيوسياسي وظروفه الدينية والعرقية الخاصة، يجعلانه أكثر أهميةً في نظر قادة باريس.
إن وجود أقلية مسيحية كبيرة تلعب أيضًا دورًا مهمًا في الحوكمة السياسية والاقتصادية في لبنان، فضلاً عن وجود طبقة من السياسيين ورجال الأعمال المثقَّفين بالثقافة واللغة الفرنسيتين، والذين لديهم تعامل مالي كبير مع نظرائهم الفرنسيين، جعل لبنان محط أنظار فرنسا في غرب آسيا.
من الواضح إذن أن زيارة ماكرون بعد انفجار بيروت، ووعوده بالإصلاح وتسوية الوضع السياسي والاقتصادي الصعب في لبنان، ولقاءاته المكثفة مع المسؤولين الحكوميين وقادة مختلف المجموعات العرقية والسياسية، وأخيراً مشاورات مكثفة لاختيار رئيس الوزراء في أقرب وقت ممكن، يمكن ربطها بهذا الدور التاريخي التقليدي.
الخلاف مع أمريكا في لبنان.. التنافس مع تركيا في العراق
نهج فرنسا تجاه لبنان أكثر واقعيةً وتسامحًا من نهج الولايات المتحدة والسعودية. بالطبع لا تعني هذه النظرة أن باريس راضية عن الوضع السياسي الحالي في بيروت، ولا ينبغي الافتراض بوجود اختلاف جوهري في نظرة الغرب تجاه لبنان.
ولكن على أي حال، يعترف ماكرون بوجود ودور حزب الله وحلفائه على رقعة الشطرنج السياسية في لبنان، وإن كان على مضض، ويقدِّم ويروِّج لخططه ومقترحاته في سياق التكيف مع هذه الظروف.
من الواضح أن واشنطن والرياض لا تبديان الكثير من التساهل تجاه حزب الله، وأن التناقض في إعادة انتخاب سعد الحريري رئيساً للوزراء وهو الخيار الذي تريده فرنسا، نابع من إيمانهما بعدم قدرتهما على احتواء حزب الله.
في غضون ذلك، سلکت باريس طريقها الخاص وتمكنت من الإتيان بالشخصية التي تثق بها، أي "مصطفى أديب" إلى منصب رئيس الوزراء.
يعتقد القادة الفرنسيون أنه إذا أصبح الغرب أكثر تشددًا مع لبنان، فهناك احتمال أن تتحول بيروت شرقًا وتقبل عرضًا ماليًا صينيًا، ما يجعل الوضع أكثر تعقيدًا مما هو عليه.
في هذه الأثناء، يجب النظر إلى زيارة ماكرون للعراق من منظور آخر، وخاصةً بالنظر إلى مخاوف فرنسا بشأن التدخل التركي في العراق.
منذ فترة وتبدي تركيا نشاطاً في ليبيا وشمال إفريقيا، وهي المنطقة التي تعتبر الفناء الخلفي السياسي والاقتصادي التاريخي لفرنسا، وتسعى إلى تحويل اللعبة لمصلحتها. كما أن الإجراءات التركية الأخيرة في شمال العراق لا تحتاج إلى شرح.
وفي هذه الظروف، تحاول باريس منافسة أنقرة من خلال مساعدة الحكومة العراقية على التعامل مع التدخل الأجنبي في البلاد، ومحاولة استعادة ما تسميه السيادة الوطنية لبغداد، وربما تعريض الوضع الأمني حول تركيا للخطر، من خلال دعم تحركات "حزب العمال الكردستاني".
الاستنتاج
تحاول فرنسا ضرب عصفورين بحجر واحد من خلال العمل في السياسة اللبنانية. فمن جهة، يصب هذا الجهد في مصلحة استعادة الدور السياسي التاريخي لهذا البلد، وضمان الحفاظ على العلاقات التجارية والاقتصادية مع شركائه في لبنان وتوسيعها.
ومن جهة أخرى، فإن السيطرة على أزمة انعدام الدولة والاضطراب الاقتصادي في لبنان وإدارتها، وإن كان ذلك على المدى القصير، يمكن أن تمنعها من الامتداد إلى المناطق المجاورة، وفي مقدمتها أوروبا، لأنه سيكون من الخطر مواصلة الاتجاه الحالي.
وعلى الرغم من أن الفرنسيين يحاولون جاهدين ترسيخ أنفسهم كمنقذ وداعم للبنان، والحفاظ على مكانتهم في هذا البلد من خلال لعب دور الشرطي الجيد، إلا أن شعوب المنطقة، وخاصةً أهل الشام، يتذکرون ويروون جيلاً بعد جيل الذكريات المريرة للاحتلال الفرنسي، ولولا تبعية بعض السياسيين اللبنانيين لباريس، وتهديدات الإليزيه بفرض مزيد من العقوبات والتذرُّع باحتجاجات الأشهر الأخيرة، لكان الوضع مختلفًا.
كذلك، لا ينبغي أن ننسى أن فرنسا، وبغض النظر عن مدى تأثيرها وقوتها، هي في النهاية أحد الفاعلين في المجال السياسي المعقد في لبنان، ولديها قوة معينة.
في الواقع، لا يمكن لفرنسا أن تفعل الكثير دون الاهتمام بمصالح اللاعبين الإقليميين وعبر الإقليميين الآخرين في لبنان. وهذا المبدأ واضح للعيان أيضاً في الوضع في العراق. ويدرك قادة الإليزيه جيدًا أن وجه غرب آسيا قد تغير بشكل كبير منذ السنوات الأخيرة من وجودهم الاستعماري في المنطقة.