الوقت - بعد ما يقرب من ثلاثة أشهر من ظهور الحالات الأولى لفيروس کورونا في الصين، يواجه العالم أزمةً عالميةً هزت كل الركائز الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
رئيس أمريكا الذي كان متفائلاً بشأن الفيروس قبل تفشي المرض في البلاد، أعلن الآن أنه إذا أعيد فتح اقتصاد أمريکا في الأيام المقبلة، فسوف تواجه عددًا فادحًا من القتلى يبلغ 2.2 مليون أمريكي.
هذه التصريحات علامة على أن أكبر اقتصاد في العالم بات أسيراً لدی فيروس كورونا، مما يجعل التوقعات للاقتصاد العالمي لا يمكن التنبؤ بها لفترة طويلة، الأمر الذي يثير أسئلةً مهمةً حول كيفية النظام العالمي في عصر ما بعد كورونا.
كورونا وتحديات الاقتصاد العالمي
من بين السيناريوهات الثلاثة التي تنبأت بها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية(OECD) للاقتصاد العالمي في أعقاب تفشي كورونا، فإن السيناريو الأسوأ يحدث الآن.
السيناريو الأسوأ لهذه المنظمة، هو احتمالية انتشار الفيروس في أفريقيا وأمريكا اللاتينية والهند، وإذا تحقق ذلك، فسيشهد الاقتصاد العالمي أكبر ركود. يتم تقييم النمو الاقتصادي بأقل من اثنين في المئة على أنه ركود. ومع انتشار الفيروس في الهند وأمريكا اللاتينية، سينخفض النمو الاقتصادي العالمي إلى أقل من واحد ونصف بالمائة.
كان 9 مارس يوم الاثنين الأسود في سوق الأسهم، والذي وضع العالم على حافة تكرار الركود الاقتصادي الذي حدث عام 1929، الذي كان أكبر ركود اقتصادي في القرن العشرين.
حيث تراجعت أسهم شركات "إكسون موبيل" النفطية 7 في المئة، مما كان له تأثير عميق على أسهم داو جونز. کذلك، انخفضت أسهم شرکة "ماراثون" النفطية 40 بالمئة. کما واصلت أسهم أكبر البورصات في العالم انخفاضها، بحيث تراجعت أسهم "داو جونز" 9.9 بالمئة في 13 مارس، متجاوزةً بذلك الأزمة المالية لعام 2008، ووصلت إلى أدنى مستوى لها منذ عام 1987. وفي بورصة لندن، تراجع مؤشر فوتسي بنسبة 7٪، ما دفع العديد من شركات الطيران إلى حافة الإفلاس.
وعلى الرغم من أن الصين، باعتبارها مركز تفشي كورونا، حاولت تقليل الآثار الاجتماعية والاقتصادية لانتشار الفيروس، من خلال سياسات صارمة ومنسقة، مع ذلك انخفض مؤشر بورصة شنغهاي 12 في المئة. کما تراجعت الصادرات الصينية بنسبة 17٪ مقارنةً بنفس الفترة من العام الماضي، وفي الشهرين الأولين من عام 2020، فقد خمسة ملايين شخص وظائفهم. کذلك، انخفضت سوق الأسهم الأسترالية 10 في المائة، وانخفض سهم اليابان 5.2 في المئة.
وبالإضافة إلى عدم القدرة على التنبؤ بالاقتصاد العالمي بسبب الفترة الزمنية الطويلة للسيطرة على کورونا، فإن الحرب النفطية الروسية السعودية أضرت بشدة باقتصاد النفط الصخري الأمريكي، الذي لن يدوم أقل من 60 دولارًا.
مع انتشار الفيروس في أوروبا، أفاد "معهد إيفو للدراسات الاقتصادية" بتقلص البيئة الاقتصادية في ألمانيا، باعتبارها قلب الاقتصاد الأوروبي، من 96 في المائة إلى 86 في المائة، وهو أمر لم يسبق له مثيل منذ عام 2009.
بدوره توقع معهد "IAB" للبحوث في أحدث تقرير له، بأن يصل عدد العاطلين عن العمل في ألمانيا إلی أكثر من ثلاثة ملايين شخص. کما أن تفشي فيروس کورونا يعطل دورة توريد المواد الخام، الأمر الذي يؤدي إلی انخفاض حاد في الإنتاجية في أجزاء أخرى من الاقتصاد الدولي.
في نفس السياق، تلقت صناعة السياحة في العالم واحدة من أقوى الضربات بسبب تفشي الفيروس، وتعرض اقتصاد السياحة في دول مثل فرنسا والولايات المتحدة وتركيا والصين وبريطانيا والمكسيك وإيطاليا لأضرار بالغة. ويتوقع "مجلس السياحة العالمي" في آخر تقرير له بعد تفشي كورونا، أن 50 مليون وظيفة في قطاع السفر والسياحة في جميع أنحاء العالم ستتعرض للخطر، کما سينخفض السفر حول العالم بنسبة 25 بالمائة.
تتأثر النظم العالمية بالنظم الاقتصادية، والتغيرات العميقة في الاقتصاد العالمي تؤثر على النظم الأمنية العالمية. لذلك، مع ضعف الاقتصاد العالمي، ستبحث الشركات الاقتصادية عن طرق جديدة للتكيف مع الظروف الجديدة، وسيؤدي ذلك إلى ظهور مناهج أمنية جديدة في العالم، ويهز النظام أحادي القطب أكثر فأکثر.
النظم العالمية
على الرغم من أن المبدأ المهم في العلاقات الدولية هو سيادة الدول، والحكومات تحاول تحديد وصد التهديدات المادية والروحية من خلال تعزيز قوتها العسكرية والاقتصادية والأمنية، لكن تفشي فيروس کورونا من مدينة ووهان الصينية، ودخوله غير المرئي إلى الحدود الوطنية للبلدان الأخرى، قد أوجدا تهديداً غير معروف وجديد للسيادة الوطنية.
وعندما تبحث الولايات المتحدة عن تهديدات جديدة في الفضاء والصواريخ الأسرع من الصوت، وتؤسس قوة الفضاء الأمريكية(USSF) لصد هذه التهديدات الناشئة، فإن انتشار فيروس ما في المجال البيولوجيي، يخلق للاقتصاد والأمن الأمريكيين أصعب التحديات في لحظة مفاجئة يصعب تصديقها.
إن الولايات المتحدة التي كانت تقدم نفسها بأنها الذراع الرئيسي لمجلس الأمن والضامن للأمن العالمي منذ الحرب العالمية الأولى والثانية، تجد نفسها الآن عاجزةً أمام انتشار الفيروس في حدودها الوطنية. والولايات المتحدة، التي لعبت من قبل دورًا رئيسيًا في الأزمات الإنسانية عبر الإقليمية، مثل تسونامي في إندونيسيا واليابان ومكافحة انتشار الإيدز في إفريقيا، لا يمكنها الآن السيطرة على تفشي الفيروس دون مساعدة البلدان الأخرى.
وإذا کانت القوة الصاروخية والنووية وقدرة المناورة العسكرية الأمريكية في الفضاء، تحدد قواعد اللعبة في النظام أحادي القطب، لکن الآن ومع الضعف البيولوجي للولايات المتحدة، فإن قواعد اللعبة تتغير فجأةً.
الصين، وهي من أنصار النظام متعدد الأقطاب، كانت قادرةً في ذروة تفشي کورونا على التكيف مع الظروف الجديدة أسرع من البلدان الأخرى. وعلی الرغم من أن هناك بعض التكهنات حول الإخفاء والکتمان والإحصاءات غير الواقعية في الصين، لكنها ومن خلال الاستفادة من جميع الإمکانات الجديدة، مثل الذكاء الاصطناعي والطائرات بدون طيار، عملت علی السيطرة على انتشار الفيروس. حيث بدأت هذه الدولة ببناء المستشفيات الميدانية بسرعة کما لو أنها في ظروف الحرب، وزادت إنتاج بعض المعدات الطبية مثل الأقنعة بعشر مرات.
ويأتي نجاح الصين في إنتاج الضروريات الأساسية، تماشياً مع التعريف الصيني الجديد للحكم العالمي، الذي أثير نقاشه في الأوساط السياسية والأكاديمية الصينية لأكثر من عقد من الزمان.
وفي هذا السياق، أعلن "جاك ما" أحد مؤسسي مجموعة "علي بابا" القابضة: "لقد تعهدت الصين بإرسال عدد كبير من أدوات اختبار فيروس کورونا والأقنعة إلى الولايات المتحدة." وقال أيضاً إنها سترسل 20 ألف جهاز اختبار و100 ألف قناع لكل الدول الأفريقية الـ54.
وبينما أصبح اقتصاد بعض الكتل العالمية شبه مغلق، تضاعف الصين إنتاج بعض السلع الأساسية للتصدير إلى دول أخرى، في ظل الركود العالمي الناجم عن كورونا.
وبالإضافة إلى امتلاكها لـ 90٪ من سوق المضادات الحيوية في الولايات المتحدة، تعد الصين واحدة من البلدان الرائدة في العالم في توفير البنية التحتية لشبكات الإنترنت من الجيل الخامس. ونظرًا للأهمية المتزايدة للثورة الإلكترونية الدقيقة والذكاء الاصطناعي ومعدات الشبكات الاجتماعية، في مؤتمرات الفيديو للمنظمات الدولية مثل أوبك وصندوق النقد الدولي، فإن موقف الصين يتعزز الآن عشية ظهور النظام متعدد الأقطاب.
ترامب، الذي اعتبر الصين تهديداً في وثائق أمنه القومي، مع انتشار کورونا في الولايات المتحدة بشکل لا يمكن السيطرة عليه، طلب التعاون من الصين، ولذلك، تواجه استراتيجية التأخير في الهيمنة الإقليمية للصين تحدياً خطيراً، وتضعف حدود النظام الأحادي القطب وتتلاشى يومًا بعد يوم.
هشاشة نمط التقارب الإقليمي
يعتبر الاتحاد الأوروبي مثالاً ناجحاً على التقارب المتقدم بين الدول المجاورة، الأمر الذي أعطى بعض المفكرين الأمل في توسيع مثل هذا النموذج إلى أجزاء أخرى من العالم.
وعلی الرغم من أن أزمة التيار اليميني ثم البريكست، أثارت شكوكاً جديةً بشأن مستقبل الاتحاد الأوروبي، ولکن انتشار كورونا وتحوُّل الاتحاد إلی مركز الانتشار مع أكثر من عشرين ألف قتيل، قد وضع نجاح الاتحاد الأوروبي في أضعف موقف تاريخي.
تعتقد بعض الدول الأوروبية أن الاتحاد الأوروبي يعاني حاليًا من الارتباك والحيرة بين القومية والتضامن. وفي هذا السياق، انتقد رئيس الوزراء الإيطالي "جوزيبي كونتي" هذا المسار، وقال: "يسعی شركاء الاتحاد الأوروبي إلى منطقهم القومي، هذا في حين أن هناك حاجة لاتخاذهم موقفاً موحداً بشأن مختلف القضايا، بما في ذلك الهجرة."
كذلك، أشارت وزيرة الشؤون الأوروبية في الحكومة الفرنسية "إميلي دي مونتشالين" في مؤتمر صحفي إلی تعرُّض مصداقية الاتحاد الأوروبي للخطر، وقالت: "إذا كان البعض لا يريدون التضامن، فيجب أن نشكك في موقعهم في الاتحاد الأوروبي، وهذه قضية أساسية".
هناك دول مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان على وشك الإفلاس الاقتصادي، وإذا فشل الاتحاد الأوروبي في توزيع العواقب الاقتصادية لتفشي كورونا إلى حد ما، فإن الفلسفة الوجودية للاتحاد الأوروبي تصبح في موضع شك.
بشكل عام، وبالنظر إلى ما سبق، يمكن الاستنتاج بأن العالم ما بعد کورونا سيشهد تغييرات جذرية على أي حال، وأول علامة على ذلك هي تسريع عملية الانتقال من النظام الأحادي القطب، وستزداد هذه التأثيرات في المستقبل بالتوازي مع شدة الأزمة.