الوقت - على الرغم من أن الجماعات السياسية العراقية بذلت جهودًا كبيرةً منذ أشهر للتوصل إلى اتفاق سياسي بشأن انسحاب قوات الاحتلال الأمريكية من العراق، إلا أنه بعد الهجوم الإرهابي الأمريكي الذي استهدف الفريق قاسم سليماني وأبا مهدي المهندس ورفاقهما بالقرب من مطار بغداد، أثمر التضامن بين مختلف الأحزاب العراقية في الموافقة النهائية على قانون ترحيل القوات الأمريكية من العراق، ووافق البرلمان العراقي عليه بأغلبية الأصوات.
المجموعات العراقية المختلفة أعلنت أن الإجراء الإرهابي الأمريكي يمثل انتهاكًا لسلامة أراضي العراق، وانتهاكاً للاتفاقيات العسكرية والأمنية الثنائية، وفي هذا السياق صادق البرلمان العراقي في 5 يناير وبعد ثلاثة أيام فقط من اغتيال الفريق سليماني على قرار إلزام الحكومة بإنهاء الوجود العسكري الأجنبي علی أرض العراق، وطالب الحكومة بتقديم شكوى رسمية إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بسبب انتهاك أمريكا للسلامة الإقليمية العراقية.
هذا في حين أن الخبراء وصفوا مظاهرة بغداد المعادية لأمريكا بأنها استفتاء جماعي على انسحاب المحتلين من هذا البلد، وأظهر بيان صادر عن المرجعية الشيعية في العراق آية الله السيستاني بأنه مرتاح من الحشود الکبيرة ومطالبها بخروج المحتلين من العراق.
على الرغم من أن البرلمان العراقي قد أزال العوائق القانونية لترحيل القوات الأمريكية من العراق، واستمرار الوجود العسكري الأمريكي في هذا البلد، والذي کان بذريعة طلب رسمي من الحكومة العراقية، قد فقد شرعيته القانونية، ولكن يبدو أن ثمة غموض في هذا الأمر، في ظل إصرار الأمريكيين على استمرار وجودهم العسكري هناك.
كما أسلفنا، إن الموقف الثابت للحكومة العراقية والبرلمان لخروج القوات الأمريكية قد أزال العقبات السياسية أمام التقدم في القضية، على الرغم من أن بعض الجماعات السنية والكردية ما زالت تصرّ على استمرار الوجود الأمريكي في العراق، وبالنظر إلى الموقف الجديد للحكومة والبرلمان فلا يمكنهم خلق عقبة قانونية في هذا الطريق.
أما الملاحظة الثانية حول إصرار أمريكا على مواصلة حضور قواتها في العراق، فترتبط بالأبعاد الأمنية والعسكرية. وفي هذا الصدد، دعا السيد مقتدى الصدر زعيم حركة الصدر العراقية وقبل إقرار قانون انسحاب المحتلين الأجانب من العراق وإلغاء الاتفاقية الأمنية مع أمريكا، إلى إغلاق السفارة الأمريكية باسم "سفارة الشر" في العراق، وأعلن أنه يتعين على أمريكا إغلاق قواعدها العسكرية في هذا البلد. كما طالب فصائل المقاومة الوطنية وجماعات المقاومة العراقية إلى تبني جبهة موحدة ضد الاحتلال الأمريكي.
وإلى جانب تهديد مقتدى الصدر، أطلقت جماعات عراقية أخرى أيضاً تهديدات في حال جهود أمريكا للحفاظ على وجودها في العراق. هذا في حين أن واشنطن قدمت مزاعم بشأن تعويضات محتملة عن بناء قواعدها في العراق، أو تأييد بعض الأطراف بقاء القوات الأمريكية في العراق، وتحاول التهرب من هذه المسؤولية.
بينما وفقًا لنص الاتفاق على الإطار الاستراتيجي لنشاط القوات الأمريكية في العراق، إذا رغب أحد الطرفين في إنهاء الاتفاقية وإخطار الطرف الآخر بالإشعار الرسمي، فلن يكون للطرف الآخر سوى سنة واحدة لتنفيذ الطلب.
التوازن العسكري لطرد أمريكا من العراق
الهجوم الإرهابي الأمريكي على وفد رسمي حلّ ضيفاً علی العراق، ومسؤول سياسي وعسكري عراقي رفيع المستوى، أثار غضبًا واسعًا بين الشعب العراقي والأحزاب والجماعات السياسية، وإذ عبروا عن اشمئزازهم أثناء تشييع جثامين شهداء الحادث الإرهابي، طالبوا برد فعل قوي علی هذا الإجراء.
دراسة المعادلات العسكرية المتعلقة بخروج القوات الأمريكية من العراق، ستكون ممكنةً بطبيعة الحال من خلال مقارنة الظروف الحالية لهذا البلد بالتطورات التي شهدها عام 2011، حين اضطرت أمريكا إلى سحب معظم قواتها نتيجةً لضغوط مارستها الحركات السياسية والشعبية العراقية والأنشطة العسكرية المعارضة للوجود الأمريكي.
في عام 2011، وخلافاً للوضع الحالي،لم يكن لدى الجماعات السياسية التي تعارض الوجود الأمريكي في العراق هيكل موحد مثل قوات الحشد الشعبي، وهي قوات تتمتع بدعم الدولة وشرعيتها، وتنظيمها تحت مظلة المؤسسات العسكرية العراقية سيضيق الساحة أمام المحتلين.
وهکذا، يمكن القول إن معارضي الوجود الأمريكي قد شهدوا تقدمًا كبيرًا من حيث التنظيم والتسليح مقارنةً بعام 2011، وهذا يدل على أنه إذا أصرت أمريكا على البقاء في العراق، فيمكنهم القيام بعمل أكثر فعاليةً ضد المحتلين.
وربما هذا هو السبب في وجود إشارات متضاربة من واشنطن ومسؤوليها العسكريين والسياسيين حول ضرورة الانسحاب من العراق، وبينما انتشرت رسالة في وقت سابق تدعو إلى انسحاب هذه القوات، ولکن اعتبر الجنرال "مارك ميلي" هذه الرسالة بأنها مسودة وإرسالها إلى الحكومة العراقية کان خطأً.
كما استبعد وزير الدفاع الأمريكي "مارك إسبر" الانسحاب من العراق تماماً. في هذه الأثناء، اتخذت "مورغان أورتاغوس" المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية موقفًا أكثر ليونةً، وإذ أعربت عن خيبة أمل أمريكا من القرار المتخذ في مجلس النواب العراقي، أبدت أملها في أن تعيد بغداد النظر في القرار.
لكن ترامب اتخذ موقفا أكثر حزماً، حيث هدد بفرض عقوبات غير مسبوقة على العراق إذا تم طرد القوات الأمريكية، وطالب بتعويض عن بناء القاعدة العسكرية الأمريکية.
ومن المهم أيضًا مقارنة الوجود العسكري الأمريكي بين عامي 2011 و2020، من حيث دراسة التوازن العسكري بين الجانبين، فيما يتعلق بإمکانية خروج القوات الأمريكية المحتمل. حيث كان لدى أمريكا حوالي 150 ألف جندي في ذلك العام، لكن التقديرات الرسمية الحالية قدرت العدد بـ 5 آلاف، بينما قدرت التقديرات غير الرسمية العدد بـ 15 ألف جندي.
بالإضافة إلى ذلك، أصبح الأمن الداخلي للعراق أقوى بكثير مما كان عليه منذ عام 2011، وتم خلق مناعة كبيرة ضد الأعمال الإرهابية لمختلف الجماعات في البلاد، والتي يرجع جزء منها إلى اجتثاث داعش.
لذلك، كانت هناك أنشطة وجهود كبيرة قام بها داعش لاستعراض القوة في الساحة الأمنية العراقية خلال الأسبوع الماضي، لكن يبدو أن أمن العراق أكثر استقرارًا مما كان عليه قبل عقد من الزمان، وقد قلل هذا مبررات استمرار نشر القوات الأمريكية إلی حدها الأدنی.
في ظل التهديد الوجودي لبقاء العسكريين الأمريكيين في المنطقة بمغادرة العراق، يبدو أن واشنطن ستستخدم كل وسائلها لمنع حدوث ذلك، لكن نجاح إيران وحلفائها في طرد القوات الأمريكية من العراق، يعتمد على العوامل التالية:
1- جدية جهود الحكومة العراقية لطرد القوات الأمريكية وإلغاء الشرعية منها، وصياغة إجماع وطني للموافقة على هذه القرارات.
2- مدى قدرة الحكومة العراقية على تحمل الضغوط والتهديدات الأمريكية.
3- مدى قدرة إيران وحلفائها على تعبئة الرأي العام العراقي ضد القوات الأمريكية ووجودها العسكري في العراق.
4- جدية الفصائل المسلحة في الهجوم المحتمل على القواعد العسكرية الأمريكية وخلق التهديد الحقيقي لواشنطن.
5- تصعيد التوترات من قبل الحكومة العراقية ضد القوات الأمريكية على المستويين الإقليمي والدولي، وخلق المتاعب لواشنطن في الأوساط الدولية.
6- مناورة العراق في المفاوضات مع أمريكا لسحب قواتها من العراق.
7- قدرة واشنطن على إقناع الکتل السنية والكردية بدعم الوجود الأمريكي في العراق لمواجهة خطة الحكومة.
8- أهمية أوراق الضغط الأمريكية ضد الحكومة العراقية.
9- مدى جدية أمريكا في تنفيذ تهديداتها ضد العراق ومواصلة الابتزاز المالي والسياسي ضده.
الاستنتاج
يواجه الأمريكيون حاليًا أزمةً معقدةً في العراق وليس لديهم خيارات كثيرة. حيث فقدوا قدرتهم علی المناورة نتيجةً لموقف البرلمان والحكومة العراقيين، هذا في حين أنهم يعتبرون رحيلهم من العراق بمثابة هزيمة مذلة وطردهم من المنطقة، وإذا أصروا على بقاء وجودهم العسكري في العراق، فيجب أن يكونوا مستعدين لمواجهة الشعب العراقي، وخاصةً الجماعات المسلحة المستقلة في العراق، والتي ربما لن تفوت أي فرصة لاستهداف القواعد الأمريكية.
في الوقت الحالي، لدى الأمريكيين مخاوف كبيرة بشأن العملية السياسية في العراق، وما زالوا يحاولون ثني العناصر السياسية عن إنهاء الشرعية لوجودهم العسكري، لكن يبدو أن التطورات الحالية في العراق لا تتيح لهم هذه الفرصة، وهناك فرصة ضئيلة للغاية لبقاء الوجود الأمريكي في العراق.
بالإضافة إلى ذلك، تعتقد أمريكا أن انسحاب قواتها من العراق هو نصر كبير لإيران وحلفائها في المنطقة، ما يثبت أن إيران نفذت جزءاً آخر من ردها الانتقامي على اغتيال الفريق سليماني.
ويضاف إلى ذلك أيضاً، أنه بهذه الطريقة سيصبح الوجود العسكري الأمريكي في بلدان أخرى في المنطقة مهدداً. وهذا الأمر قد ضيَّق الخناق علی واشنطن أکثر فأکثر، في ضوء تحرك إيران غير المسبوق في استهداف القواعد العسكرية الأمريكية رسمياً، وإعلان مسؤوليتها عن الهجوم.