الوقت - ربما في اليوم الذي استخدم فيه العاهل الأردني كلمة "الهلال الشيعي" للعزف على الوتر الطائفي والقرع علی طبول الاختلافات، لم يكن يتخيل أن يكون هذا الهلال حزامًا قويًا للمسلمين (الشيعة والسنة) والمسيحيين وحتى الدروز والايزيديين.
هذا المحور الذي أصبح اليوم يعرف باسم جبهة المقاومة، التي حاربت الإرهاب وسلبت النوم من عيون أمريكا والکيان الإسرائيلي، وتحوَّل إلی القضية الأولى والأهم للأمن القومي لهاتين الحكومتين.
بعد شهادة الفريق الشهيد الحاج قاسم سليماني والشهيد أبي مهدي المهندس، يری البيت الأبيض ومحللوه الأمنيون تغييراً في الممارسات الإقليمية وتزايد حذر المسؤولين السياسيين في الدول تجاه محور المقاومة.
إنهم يعتقدون أنه من خلال تصفية قمة الهرم، ستتعطل عملية صنع القرار والقيادة لمحور المقاومة، وأن سلطات هذه الدول بحاجة إلى توخي الحذر في التعامل مع الأحداث لتجنّب تصاعد التوترات.
وكان هذا التحليل واضحاً في تصريحات "برايان هوك" مستشار التخطيط السياسي والاستشارة السياسية في وزارة الخارجية الأمريکية، بعد اغتيال الفريق سليماني وتهديده باغتيال اللواء "قاآني".
ومع ذلك، بعد أيام قليلة من شهادة اللواء سليماني، شن الجيش السعودي هجوماً علی مديرية "نهم"، ومن ناحية أخرى عاود "داعش" الظهور في عدة مناطق في شرق سوريا ومناطق من العراق. من جهة أخرى، بدأت الجماعات الإرهابية في إدلب وحلب خطوات للسيطرة على المناطق التي تخضع لسيادة الحكومة السورية.
وتيرة هذه الأحداث المتسارعة أظهرت أن سبب ذلك إلى جانب إعلان البيت الأبيض عن صفقة القرن، كان يعود إلى حد ما إلى الانطباع الاستخباراتي والأمني لأمريكا من التطورات في المنطقة بعد شهادة الفريق سليماني، حيث اعتقد مسؤولو الأمن الأمريكيون أنه بعد هذا الاغتيال، ستكون قيادات محور المقاومة أکثر حذراً تجاه التعامل مع الأحداث. في حين أن بعض الأحداث الكبرى غيرت المصفوفة التحليلية للبنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية.
حيث أطلقت أنصار الله عملية دفاع صاروخي واسعة النطاق باسم "البنيان المرصوص"، وحررت أجزاءً مهمةً من شرق صنعاء. والقوات السورية دخلت لأول مرة منذ عام 2011 مناطق من إدلب وحلب والتي كان يسيطر عليها الإرهابيون في السابق. وسرعان ما اتجهت الأحداث في العراق نحو تحقيق الاستقرار وتغيير مسار الاحتجاجات في الشوارع، وتكثَّف التعاطف السياسي بين الجماعات السياسية في البلاد لإنهاء التعاون مع أمريكا، وتمت الموافقة على خطة طرد القوات العسكرية الأمريكية في البرلمان العراقي.
کما ردت إيران أيضًا بقوة على عملية بغداد بصواريخها التي استهدفت مركز قيادة القوات الأمريكية في قاعدة عين الأسد، والتي قالت المصادر الرسمية إن 64 جندياً أمريكياً أصيبوا في الهجوم حتى الآن.
في الواقع، ليس فقط لم يشهد مصير محور المقاومة أي تغيير بعد استشهاد الفريق سليماني، بل ازداد الجو الأيديولوجي وتحالف قوى المقاومة بشكل کبير، حتى وصل قادة حماس إلى طهران في مراسم تشييع جثمان الشهيد سليماني وكانوا أحد المتحدثين الرئيسيين.
وفي وقت سابق، عملت الرياض والقاهرة بجد لجعل فصائل المقاومة في غزة، بما في ذلك حماس، تجد مشكلةً في التواصل مع إيران، بهدف انفصالها عن طهران بوعود مالية واقتصادية.
بالنظر إلى الأحداث الأخيرة وتأكيد قائد قوة القدس في الحوار مع كبار قادة المقاومة في غزة على استمرار سياسات جمهورية إيران الإسلامية في المنطقة، يمكن الإشارة إلی النقاط المهمة التالية:
1- قوة القدس منظمة عبر وطنية ودولية، كما صرَّح قائد الثورة الإسلامية المعظم. في الواقع، قوة القدس هي منظمة عابرة للحدود وجنود بلا حدود. الجنود الذين لا يعرفون الجغرافيا السياسية وهدفهم دعم المضطهدين ومحاربة الظالمين. وبهذا المعنى، يجب أن نرى توسيع هذه المنظمة في مختلف المهام، والأهم من ذلك، تعزيز جبهة المقاومة بمجموعة واسعة من المؤيدين لمحور المقاومة. وهو البذر الذي زرعه جهاد الفريق الشهيد سليماني، ولكن سنشهد مرحلة نضوجه وثمرته في القيادة الجديدة. عند النظر إلى دائرة نشاط قوة القدس، يمكن الإذعان بأن الهيكل السلوكي ونشاط هذه القوة في المنطقة، قد خلق نظامًا جديدًا من المصفوفة الأمنية، ونتيجةً لذلك، سيحظی الأمن بمقاربة منظمة وشعبية، ويتم ترك السلطة والمحافظة عليها للشعب. وهو ما حدث حتى الآن بدعم ومشورة إيران لقوات الحشد الشعبي العراقي، حكومة بشار الأسد، دعم حزب الله وأنصار الله والإرادة الوطنية لمحاربة الصهاينة في فلسطين حتى يومنا هذا. کما أن تحقيق الأمن من قبل أي لاعب دون إرادة الشعوب ومحور المقاومة أمر مستحيل.
2- المقاومة هي هيکل منظّم وممنهج، وفي الحقيقة هي حياة طيبة وبيئة اجتماعية. إن شهادة قائد محور المقاومة في بغداد ليس فقط لم تعطِّل حسابات المقاومة فحسب، بل جعلتها أكثر وعياً ومسايرةً للرأي العام مع هيكلها وسياساتها. والمسيرات المليونية التي خرجت في تشييع جثمان الشهيد سليماني والمهندس، أظهرت أن المقاومة تتجاوز الشخص أو الشخصية المسيطرة عليها. وفي الحقيقة، في بداية العقد الخامس للثورة الإسلامية، يمکن القول اليوم إن إحدى ثمار الثورة تتمثل في تحقيق النضج الاجتماعي وتنظيم منهجيات التفكير للمقاومة في المنطقة. حيث اليوم يتم التأکيد على الحاجة إلى الصمود والمقاومة باعتبارها الحل العملي الوحيد، ويمكننا القول "لقد تم قبول المقاومة كمبدأ أساسي".
3- كما أشار قائد قوة القدس اللواء "قاآني"، إن محور المقاومة لم يغير سياساته، بل لديه عزم أكبر على تحقيق أهدافه المصممة مسبقاً. وأحد هذه الأهداف هو انسحاب أمريكا من المنطقة. في أعقاب شهادة الفريق سليماني، وضعت جمهورية إيران الإسلامية رسمياً خطة "الانسحاب الأمريكي القسري من المنطقة" كسياسة "الانتقام الصعب"، وتتابعها على وجه التحديد في جميع أجزاء محور المقاومة. وفي مثل هذه الظروف، بالإضافة إلى التحدي الخطير الذي يواجهه البيت الأبيض في المنطقة، فإن الدول التي كانت تعتقد سابقًا أنه مع انسحاب أمريكا وتحوّلها شرقًا، ستصبح منطقة غرب آسيا ساحةً لحضورها وعملياتها، باتت مترددةً في اتخاذ القرار والحضور من الآن.
يجب القول إن المقاومة لم تتوقف بشهادة الفريق سليماني فحسب، بل تشير الأدلة إلى تزايد سرعة نشاط المقاومة وقدرتها علی رد الفعل بشكل کبير، بحيث نحن أمام جيل جديد من محور المقاومة علی طريق الأهداف المرسومة.