الوقت- التوتر بين الحكومة التركية والأكراد ليس جديداً على ساحة المنطقة، والحرب التي يشنها الجيش التركي على حزب العمال الكردستاني (PKK ) ليست حديثة العهد، وما كانت هذه الحرب تهدأ برهةً إلا وكانت أصوات الانفجارت تعلو في الأفق معلنةً بدء المواجهات من جديد، ومع مرور السنوات وتبدل أوضاع المنطقة، اختلفت مجريات الحرب التركية على الـPKK وانقلبت الموازين.
لم يعد في هذه الفترة حزب العمال الكردستاني كما كان سابقاً، والعمليات العسكرية التي ينفذها مقاتلوا هذا الحزب أصبحت في الفترة الأخيرة أكثر إحكاماً وقوة، فلقد استطاع مقاتلوا الـPKK مواصلة عملياتهم رغم الهجمات المكثفة للطيران التركي الذي نفذ هجوماً بثلاثين مقاتلة من طراز (f16 ) في يومٍ واحد (30 يوليو/تموز) دون ضحايا ذكرها الإعلام التركي، ما يشير إلى تعاظم قوة حزب العمال وازدياد قدرته على المناورة، وهذا يعود إلى عوامل عديدة:
أولاً:
شكّل دخول تنظيم داعش الإرهابي إلى المنطقة واستهدافه الأكراد في مناطق تواجدهم مرحلة جديدة للأكراد، وبات التعاطف الدولي معهم أكثر من قبل وخاصةً بعد معركة عين العرب (كوباني)، ما يعرقل سعي تركيا للقضاء على حزب العمال، وخاصةً أنه برز على أنه الجهة الأقوى والأكثر تنظيماً في التصدي لتنظيم داعش الإرهابي، وهذا يعرض الأتراك إلى ضغط غربي بسبب سعيهم للقضاء على هذا الحزب، وقد ظهر انتقاد ألمانيا لسياسة أردوغان تجاه الأكراد علناً وأكثر من مرة، وتجدر الإشارة هنا إلى أن "المكتب الفدرالي الألماني لحماية الدستور(BfV )" أكد في تقريرٍ له عام 2007 أن ألمانيا تشكل قاعدة دعمٍ مادي لحزب العمال، وهذا ما أكده تقرير "وضع الإرهاب والاتجاهات (TE-SAT )" الصادر عن الاتحاد الأوروبي عام 2011.
ثانياً:
شارك الـPKK في المعركة ضد تنظيم داعش الإرهابي، وكان يقف جنباً إلى جنب مع قوات البيشمركة في العراق ووحدات حماية الشعب في سوريا، وهذا ما جعل الأكراد يشعرون بأن عدوهم واحد ومصيرهم واحد، وحزب العمال لن يبقى في مواجهاته مع تركيا وحيداً بعد الآن، بل سيتلقى ما يحتاجه من دعم، وخاصةً أن تواطئ الحكومة التركية ضد أكراد سوريا في معركة عين العرب (كوباني) كان واضحاً عندما رفضت حكومة أنقرة فتح طريق إمداد مباشر إلى الأكراد المتواجدين داخل المدينة.
ثالثاً:
ترفض أمريكا ضمنياً إنهاء ملف الأكراد في الوقت الراهن لحماية مصالحها وحفاظاً على ورقة الضغط على أنقرة، ولهذا تعارض واشنطن إقامة منطقة عازلة في الأراضي السورية، فهكذا خيار يسهل على الأتراك إنهاء الملف الكردي لصالحهم، ورغم أن أمريكا تعتبر حزب العمال الكردستاني تنظيماً إرهابياً، إلا أن هذا لا يعني عدم وصول أي دعم أمريكي لمقاتليه، ومن البديهي أن هذا الدعم لن يكون مباشراً، ولا علنياً، فأمريكا لا تريد إغضاب حليفها التركي العضو في حلف الناتو، ولهذا فإن واشنطن تجد في أربيل الوسيط المناسب لإيصال المساعدات لحزب العمال، وكانت تُقدم هذه المساعدات باسم قوات البيشمركة التي تشارك قوات الـPKK في نفس الخندق، أي أنها كانت للإثنتين معاً، ما يُظهر أن واشنطن تدعم بشكلٍ غير علني أو مباشر حزب العمال الذي يتمتع بعلاقة مع الأمريكيين وصفها "هنري باركي"، مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز "ودرو ويلسون" الدولي للأبحاث في واشنطن، بـ"العميقة".
رابعاً:
دخل الأكراد في منعطفٍ هامٍ بعد الانتخابات التركية الأخيرة والتي دخل فيها حزب الشعوب الديمقراطي إلى البرلمان، وهذا ما غيّر الخارطة السياسية التي كان يرسمها أردوغان لتركيا، فالأكراد اليوم ليسوا كالسابق إذ أصبحوا شركاء في الحكم وباتوا ثقلاً سياسياً يتوجب على أردوغان أن يحاورهم، وإلا فإنه سَيُتّهم بالدكتاتورية وبتهميش قوى سياسية في الدولة، وهذا ما يعرضه لضغط دولي، بالإضافة إلى رفضٍ داخلي من قبل الأحزاب المعارضة لحزب العدالة والتنمية والتي تتهمه بالسعي للانفراد في الحكم.
خامساً:
لا يتفق أردوغان وحزبه مع باقي الأحزاب في كثيرٍ من الملفات، وحزب الشعب الجمهوري وهو أكبر الأحزاب المعارضة لحزب أردوغان ندد بما اسماه "سياسة الدم" تجاه الأكراد، فأردوغان لايستطيع تنفيذ ما يرغب به بشكل مستقل، وإلا فإن الهوّة بين الأحزاب التركية ستصبح أعمق، وسيصبح التوصل إلى اتفاق مع باقي الأحزاب أصعب وأكثر تعقيداً.
رغم أن هذه العوامل ساهمت في جعل حزب العمال الكردستاني أكثر قوة، إلا أنه من المتوقع أن حدة المعركة عليه ستخف، وسيحاول أردوغان فتح أبواب المفاوضات مع الـPKK ، فالتنبؤات تشير إلى أن الهجمة الشرسة ضد الأكراد مؤقتة وتهدف إلى إضعافهم سياسياً وإخراجهم من البرلمان لفتح المجال أمام أردوغان وحزبه لتغيير الدستور ونظام الحكم في البلاد، والانتخابات المبكرة التي سيجريها أردوغان ستحدد إذا كان الأكراد ضمن البرلمان أو خارجه، وفي كلتا الحالتين سيكون أردوغان مُجبراً على التفاوض معهم لتهدئة البلاد وتجنب المزيد من التصعيد.