الوقت- التحولات والتغيرات الجديدة التي تجتاح عالم الشرق الأوسط، تفرض على القوى الإقليمية في المنطقة أن تتخذ مجموعة تدابير لحماية نفسها من موجة التغيرات القادمة، لاسيما تلك التي تعوّل على أمريكا، لأن الأشهر القليلة الماضية أثبتت أن الغطاء الأمريكي لأي جهة كانت لم يعد مجدياً، لأن مصالح واشنطن نفسها تغيرت من حيث الأولويات، إذ وجدت الإدارة الأمريكية أن حجم الخسائر التي قد تتعرّض لها في الشرق الأوسط لحماية حلفائها لا تتناسب مع مكاسبها من هذه المنطقة، وجميعنا يعلم أن أمريكا تهتم بمصالحها في الدرجة الأولى، لذلك يجب على الحلفاء لواشنطن أن يدرسوا بجدية حديثها المتكرر عن الانسحاب من الشرق الأوسط.
الكيان الإسرائيلي يعدّ من أكثر حلفاء واشنطن الذين تساورهم مخاوف كبيرة من هذا الانسحاب، ونعتقد أن آخر خدمة عملية ممكن أن تقدّمها أمريكا لـ "إسرائيل" قبل انسحابها هي "صفقة القرن"، مع العلم أن واشنطن تدرك جيداً أن تمريرها أمر شبه مستحيل، ولكن مع ذلك تظهر مدى جديتها للإسرائيليين بهذا الموضوع، على اعتبار أن المضي في تنفيذ هذا المشروع قد يخدم الخزانة الأمريكية من خلال توقيع بعض الصفقات التجارية هنا وهناك.
عدم إمكانية تنفيذ صفقة القرن يعود إلى تراجع قوة حلفاء واشنطن لاسيما السعودية التي تعدّ البلد الأبرز في تمرير هذه الصفقة، ولاشك بأن السعودية تمضي في هذا الإطار لكن تنامي قدرات المقاومة في المنطقة حال دون تمرير هذه الصفقة، وما سجن السلطات السعودية للفلسطينيين وخاصة التابعين لحماس إلا محاولة أخيرة للضغط على المقاومة الفلسطينية ودفعها للرضوخ للشروط الأمريكية.
"إسرائيل" كانت سعيدة في مضي السعودية نحو التطبيع معها، وتقديم خدمات مجانية للصهاينة على حساب العرب والمسلمين، إلا أن تراجع قوة السعودية وغرقها في حروب وصراعات غير مجدية أفقد الإسرائيليين فرحتهم، ومع ذلك سيقاتلون من أجل التطبيع مع بعض الدول العربية، لأنهم بدؤوا يشعرون بخطوة انسحاب واشنطن من المنطقة.
مواجهة إيران
أكثر ما يقلق الصهاينة هو عجز الدول الغربية وأمريكا وحلفائها عن مواجهة إيران، وفي كل مرة يحاول هؤلاء مجتمعين استهداف إيران هنا أو هناك يأتيهم الرد صاعقاً، ويكتشفون أن واشنطن خدعتهم بتسويقها لنفسها على أنها القوة التي لا تقهر في العالم، ومن يراجع الصراع الإيراني - الأمريكي منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979 وحتى اللحظة سيجد أن أمريكا هي الطرف الخاسر في أي محاولة لاستهداف إيران.
عدم قدرة واشنطن على استهداف طهران على المستوى الدبلوماسي والعسكري والسياسي، شكّل قلقاً أكبر على الإسرائيليين، لذلك تجدهم اليوم يعملون على تكثيف تعاونهم الإقليمي مع ما يسمونهم" الدول الصديقة".
حتى كبار قادة كيان الاحتلال الإسرائيليّ يُقِّرون بأنّ انسحاب أمريكا من الشرق الأوسط وتركيز جُلّ قدراتها وخبراتها في مُحاربة الصين تجارياً، يُلقي بظلاله السلبيّة على مصالح الأمن القوميّ في تل أبيب، وبالتالي يتحتّم على صُنّاع القرار في الكيان صوغ استراتيجيّةٍ جديدةٍ لمُواجهة التحدّيات القديمة-الجديدة التي تُهدِّد "إسرائيل"، إنْ كان تكتيكياً أوْ استراتيجياً.
ويرى الإسرائيليون في الانسحاب الأمريكي من المنطقة دافعاً لهم لمزيد من العمل والجهد لزيادة تدخلهم في تطورات المنطقة الإقليمية السياسية والعسكرية والدبلوماسية، رغم أن ذلك يحمل في ثناياه مخاطر أمنية يمكن أن تتحملها "إسرائيل" على عاتقها لزيادة شراكاتها الاستراتيجية في المنطقة.
في هذا الإطار قال كاتب إسرائيلي إن "الخروج التدريجي لأمريكا من الشرق الأوسط يتطلب من إسرائيل تكثيف تعاونها الإقليمي مع الدول الصديقة لمواجهة جملة تحديات أساسية، على رأسها الملف الإيراني، ما يتطلب منها بذل مزيد من الجهود الدبلوماسية لزيادة شراكاتها الإقليمية".
وأضاف أريئيل كابيري في مقاله التحليلي بمجلة يسرائيل ديفينس للعلوم العسكرية: إن "الانسحاب الأمريكي من المنطقة يدفع إسرائيل لمزيد من العمل والجهد لزيادة تدخلها في تطورات المنطقة الإقليمية السياسية والعسكرية والدبلوماسية، ما يحمل مخاطر أمنية يمكن أن تتحملها على عاتقها لزيادة شراكاتها الاستراتيجية في المنطقة".
وأوضح "كابيري" الباحث في الشؤون الدولية في أكاديمية الجليل الغربي: أن "إسرائيل ترى أن أسعار النفط في الأسواق العالمية مرتبط أساساً بوضع الاستقرار الأمني في الشرق الأوسط، واستمرار الدعم الدولي لدول المنطقة، متزامناً مع زيادة التبعات المتوقعة على التأثير الروسي الإيراني، والخشية من عدم الاستقرار الداخلي للدول التي تشهد أعمال عنف داخلية".
ولا يخفي الإسرائيليون أنهم تمتعوا في سنوات وعقود سابقة بمظلة الحماية الأمريكية في المنطقة، خاصة منذ العام 1991 حين أرسلت أمريكا خمسمئة ألف جندي إلى الشرق الأوسط خلال حرب الخليج الأولى لإخراج القوات العراقية من الكويت، وفي عام 2003 اكتفت بوجود 285 ألف جندي للإطاحة بنظام صدام حسين من العراق، واليوم في كل الشرق الأوسط يوجد 35 ألف جندي أمريكي فقط، ما يجعل "إسرائيل" تجد نفسها وسط هذا الفراغ.
كل ذلك يجعل القراءة الإسرائيلية تفترض عدم تغيب أمريكا كلياً عن الشرق الأوسط، صحيح أن جنودها عادوا إلى بيوتهم، لكن واشنطن تستعين بقوات خاصة، واستخبارات دقيقة، والحرب الجوية من خلال الطائرات المسيرة غير المأهولة، وحرب السايبر، بجانب تقديم الدعم العسكري والتسليحي والدبلوماسي لدول المنطقة.