الوقت- لعدة سنوات ازداد النقاش في الدوائر العلمية ووسائل الإعلام العالمية حول زوال الهيمنة الأمريكية على العالم وإمكانية حدوث تغيير في ميزان القوى العالمية والانتقال من النظام الأحادي إلى عالم المتعدد الأقطاب، ولكن هذا الزوال الأمريكي متى سوف يحدث بالضبط وإلى أي مستوى سيصل؟ وما هي الأسباب والعلامات والاحتمالات الكامنة وراء ذلك الزوال الأمريكي؟
الهيمنة الأمريكية
عندما وصل "جورج بوش الأب" إلى رأس السلطة في أمريكا، رأى انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، وهذا الأمر دفعه هو ومجموعة من النخبة السياسية والفكرية إلى اتخاذ قرار بإنهاء نظام القطبين الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أعلن "بوش الأب" بأن الهيمنة الأمريكية ستجتاح العالم لمدة قرن من الزمان وسيعيش العالم كله تحت مظلة الثقافة الأمريكية ونظامها وقيمها.
وواصل "بوش الابن" أسلوب والده بطريقة أخرى، وقام بشنّ هجمات عسكرية على العراق وأفغانستان، مستخدماً نظرية نهاية تاريخ الفوكوياما وصراع الحضارات، معلناً ولادة إرهاب منظّم جديد في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولكن منذ وقت ليس ببعيد كانت هناك علامات أخرى مخالفة لنظرية الهيمنة الأمريكية، حيث يعتقد "نعوم تشومسكي" بأن تراجع الهيمنة الأمريكية بدأ بعد الحرب العالمية الثانية، وأن خطابات الزعماء الأمريكيين منذ عام 1990 وحتى الآن كانت جميعها نوعاً من "خداع الذات".
تراجع النمل
هناك فرق بين التراجع والانهيار، فالتراجع هو مقدمة للانهيار، لكن علاماته لا يمكن مشاهدتها.
وحول هذا السياق نشرت صحيفة واشنطن بوست مقالاً، تناولت فيه التغيرات في موازيين القوى العالمية، ونهاية عهد التفرد والهيمنة الأمريكية وصعود قوى أخرى تحل محلها، مشيرة إلى دور ترامب الأساسي في تراجع أمريكا عالمياً بفعل قراراته وخطاباته غير المدروسة والتي لا تليق أبداً بقائد دولة عظمى، وأضرّت بسمعتها ومكانتها، كما أصدر المحرر "كريستوفر" مقالاً في عام 2008 تحدّث فيه عن التراجع الأمريكي في الساحة الدولية، إلا أن الأمر قد حدث بنمط أسرع مما كان متوقعاً بفضل "ترامب" وبصمته السلبية على مكانة أمريكا عالمياً.
لقد بدأ انهيار أمريكا من الجانب الاقتصادي الذي يتحرّك في وقتنا الحالي إلى الأمام ببطء مثل النمل الأبيض.
يذكر أن أمريكا هيمنت على الاقتصاد العالمي منذ عشرينيات القرن الماضي، وقد تعرّض اقتصاد البلاد لعدد من الأزمات العنيفة منذ الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، غير أن أخطر موجة ركود عاشها الاقتصاد الأمريكي في العقود الماضية كانت الأزمة المالية العالمية في عامي 2007/2008 والتي نتجت عن أزمة الرهن العقاري والمشتقات المالية، إذ انكمش الاقتصاد بنسبة 5% في العامين المذكورين وعلى الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي هو الأكبر عالمياً من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي والأكثر تقدّماً تكنولوجياً إلا أنه فقد في السنوات القليلة الماضية صدارته لقائمة أكبر اقتصادات العالم تبعاً للقدرة الشرائية لفائدة الصين.
أبرز المؤشرات على تراجع الهيمنة الأمريكية
قال السياسي الأمريكي الشهير "هنري كيسنجر" في تعليق: "أعتقد أن ترامب هو أحد الشخصيات التاريخية التي تمثّل نهاية عهد من الزمن".
ولفت "كيسنجر" إلى أن "ترامب" يعيش في تناقض تام حيث أنه ينتمي إلى الطبقة الثرية في المجتمع الأمريكي، وفي الوقت نفسه يعلن في تصريحاته بأنه ممثل عن الطبقة الفقيرة والعمال.
وأشار "كيسنجر" إلى أن حملات المعارضة العالمية ضد هيمنة أمريكا قد بدأت قبل أن يأتي "ترامب" للحكم خاصة بعدما شنّت الحكومة الأمريكية العديد من الهجمات البربرية والوحشية في أفغانستان والعراق، إلا أن "ترامب" قد ساهم بقوة في تراجع أمريكا عن مكانتها وتشويه سمعتها بفعل تصرفاته وسياساته وتصريحاته غير المفهومة والتي تنم عن قائد فوضوي لا يستحق أن يكون قائداً لأكبر دولة في العالم، وذكر الكاتب آراء المسؤولين الأمريكيين في إدارة "ترامب" للسياسة الخارجية الأمريكية: حيث وصفه "كارل روف" أحد الجمهوريين بأنه متسرّع وذو أفق محدود في التعامل مع القضايا مثل إطلاقه الاتهامات الغبية وغير المنصفة والمتسرعة ضد وزير «جيف سيسيونس» والتي تدل على افتقاره للحنكة السياسية، وأشار أيضاً إلى وصف "كينيث ستار" المحقق الخاص للرئيس الأسبق كلينتون بأنه الرئيس الأفظع والأكثر تضليلاً في العقود الخمسة الأخيرة في تاريخ أمريكا.
وثمة دليل آخر يسوقه هذا السياسي المحنك للدلالة على تراجع أمريكا عالمياً، فقد كشف مسح أجراه مركز "بيو" للدراسات البحثية تراجع شعبية "ترامب" عالمياً والثقة التي يتمتع بها في المجتمع الدولي إلى 22% فقط مقارنة بشعبية "أوباما" في أواخر عهده والتي وصلت إلى 64%، كما أشارت النتائج أيضاً إلى صعود بعض القادة الدوليين في إدارة الساحة العالمية مثل "شى جين بينج" الرئيس الصيني، و"فلاديمير بوتين" الرئيس الروسي، فكلاهما حصلوا على زيادة طفيفة في نسبة التأييد والدعم لدورهم العالمي. وأكد "كيسنجر" على أن إخفاق إدارة "ترامب" في الحفاظ على قوة المكانة الأمريكية وتأثيرها السلبي على صورة ومنزلة أمريكا في الشأن العالمي، ويدل أيضاً على نهاية عصر القائد الأمريكي الذي يقود العالم أجمع ويسيطر عليه وصعود الرموز الأخرى في الساحة العالمية والتي أصبحت أكثر شعبية وأكثر فعالية وأجدر على الإمساك بزمام الأمور عالمياً في ظل الأفُول الأمريكي في عهد "ترامب".
وأضاف "كيسنجر" إلى أن هناك أيضاً الصعود الصيني وحسن قراءة القيادة الصينية للساحة الدولية واستغلالها للتراجع الأمريكي ومحاولتها ملء الفراغات التي خلفتها أمريكا، فبموجب السياسة الخارجية الأمريكية لـ"ترامب" تمكّنت الصين من لعب الدور الفاعل الرئيس في مجال الاستثمار والتجارة الدولية، فمدّت نفوذها ووجودها إلى دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا ووسط آسيا، ووقّعت العديد من الاتفاقات معهم، وأسست العديد من الشركات والاستثمارات هناك، ونتيجة لذلك فسبعة من أصل عشر دول أوروبية ترى الصين بمثابة القوة الاقتصادية الأولى التي تسيطر على العالم وليس أمريكا.