الوقت- جرت العادة أن تكثر تحرّكات التيارات الانفصالية في الحروب، ورغم الجانب السلبي الذي تحمله هذه الأنشطة من محاولات تقسيم البلاد، والعمالة للخارجي، إلا أنها تعدّ فرصة نوعيّة للأنظمة في كشف العملاء، والمتآمرين على سيادة وحدة البلاد.
سوريا ليست عن هذا الأمر ببعيدة، فمنذ اليوم الأوّل للأزمة السوريّة، عمد أولئك الذين يدعون أنفسهم بالثوار، للبدء بالتحرّكات الانفصالية وبشكل علني، في حين تنازل البعض عن جنسيّة الوطن الذي ترعرع فيه، وطالب بضمّ الأرض التي ورثها عن أجداده "السوريين" إلى دول أخرى.
آخر هذه التحرّكات تمثّلت بما سُمّي مؤتمر العشائر السورية الذي انعقد في مدينة عين عيسى السورية التي تسيطر عليها ميليشيات مسلحة تابعة لأمريكا ودول غربية أخرى.
ويأتي هذا التحرّك بالتزامن مع تحرّكات داخلية وخارجيّة أخرى، أأأهمها العقوبات الأمريكية على سوريا، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى جملة من النقاط، أبرزها:
أوّلاً: في الشكل، بدا هذا المؤتمر، الذي عقد برعاية قوات سوريا الديموقراطيّة المدعومة أمريكياً، هزيلاً بامتياز فقد مُني بفشل كبير بعد مقاطعة معظم العشائر العربية الأصيلة له ليخفّض منظموه عنوانه لملتقى.
إن هذا الضعف يعكس خيار الشعب السوري في إصراره على صون وحدة البلاد رغم جميع الخلافات السياسيّة، فالوطن خارج "البازار السياسي"، كما أن بعض التقارير الإعلاميّة تحدّثت عن عمليات ترغيب وترهيب حصلت من قبل الجهات المشرفة عليه. في المقابل، هناك شيوخ قبائل سوريّة أكّدت رفضها لحضور هذه المؤامرات التي تهدف لفصل الجزيرة عن سوريا، كذلك شهدت دير الزور، المنطقة القبلية الأكثر وضوحاً احتجاجات رفعت فيها شعارات مناوئة لـ"قسد".
بدا مضحكاً بالنسبة لكثيرين أن تدعو قوات كرديّة العشائر العربية لمؤتمر الانفصال عن الأراضي العربية لمصلحة المشروع الكردي، خدمة للمشروع الأمريكي.
ثانياً: أعادني هذا الملتقى سنوات إلى الخلف وتحديداً إلى المؤتمرات التي كانت تعقد في اسطنبول والرياض وأوروبا، في السابق، كانت تحظى مثل هذه المؤتمرات بتغطية إعلاميّة واسعة، بخلاف ما يحصل اليوم، الأمر الذي يؤكد حجم الضعف الذي باتت تعاني منه هذه الجماعات والجهات الراعية لها، تجرى العادة أن تعمد الشعوب والتيارات والأحزاب المؤتمرات في فترتين رئيستين الأولى مع بداية الحرب والثورة وذلك لمحاولة رسم المستقبل السياسي للبلاد، وكذلك قبيل نهاية الحرب، إما لرسم الشكل النهائي للنظام الجديد إذا ما كانت منتصرة، وإما لمحاولة المناورة في الوقت الضائع، علّها تنجح في كسب أي امتياز عندما يفشل رهانها، وبين المؤتمرين هناك أشهر أو سنوات من الحرب التي ترسم مسار هذه المؤتمرات.
ثالثاً: في الشكل أيضاً، يعدّ هذا المؤتمر بحقّ "ملتقى العمالة والخيانة والارتهان"، وفق بيان الخارجيّة السوريّة، لا بل إن جريمة هؤلاء تفوق حتّى جريمة أغلبيّة إرهابيي داعش، فأولئك غرباء وغزاة، لم يترعرعوا في أحضان هذا الوطن، لم يأكلوا من خبزه ويشربوا ماءه، لم يكبروا على مقاعد دراسته التي ردّدوا فيها شعارات الوطن، ولكن ماذا عن الذي هم كذلك، واليوم، يطعنون بالوطن من الخلف، وكما يُقال: أذى ذوي القربى أشدّ مضاضة.
رابعاً: في المضمون، لا ينفصل هذا الملتقى عن التحرّكات الأمريكية في محاربة الدولة السوريّة، بدءاً من دعم الإرهاب وليس انتهاءً بفرض العقوبات.
إن هذا الملتقى يؤكد عزم واشنطن على تمرير مشروعها التقسيمي في سوريا، وبالتالي ما فشلت في الحصول عليه عبر تنظيم داعش الإرهابي تسعى اليوم للحصول عليه عبر قوات سوريا الديموقراطيّة وبعض التيارات الانفصاليّة من جهة، والعقوبات الاقتصاديّة من جهة أخرى.
خامساً: تدرك واشنطن جيّداً عدم شرعية حضورها في سوريا، وبالتالي تسعى لضمان وجودها في سوريا عبر الاستفادة من التشكيلات الكردية الانفصالية، وبالتالي تحاول واشنطن تقويض منصة أستانا عبر تنظيم ملتقى للعشائر السورية في شرق سوريا بمنطقة عين عيسى، وذلك لضمان وجودها في سوريا، كما جاء في بيان الخارجيّة الروسيّة.
سادساً: لا يعدّ هذا الملتقى انتهاكاً سافراً لمبادئ الأمم المتحدّة في صيانة وحدة الأراضي فحسب، بل انتهاءً للقرار الصادر عن مجلس الأمن 2254 والذي أّكد فيه المجلس الحفاظ على وحدة أراضي الجمهورية العربية السورية وسيادة دولتها، وبالتالي رغم خطورته إلا أنّه يحمل في طياتها ألطافاً خفيّة. ففي حين كشف هذا الملتقى حقيقة هؤلاء السورين الذين انخدعوا بشعارات الحريّة التي أطلقوها، كشف هذا المؤتمر، الذي كان يُراد منه تحجيم هؤلاء في مناطقهم، وبالتالي يمكن القول أنّهم الخاسر الأكبر.
سابعاً: أثبتت قوات سوريا الديموقراطيّة الراعية لهذا الملتقى أنها لا تعبّر بأي شكل من الأشكال عن المكونات السورية الحقيقية في تلك المنطقة، بل حتّى عن بعض من حضر مقابل الحصول على دعم مالي سخي، وبالتالي بدل أن تعمد هذه القوات للحوار مع الدولة السوريّة، تلجأ إلى تنفيذ المسرحيّة الأمريكية.
هذا الأمر سيصبّ في نهايته في مصلحة الدولة السورية، لأن أي حوار مع دمشق من قبل هذه القوات اليوم، ستكون نتيجته رابح-رابح، ولكن نتيجته بالطبع لن تكون كذلك مع هذه الجماعات التي لا تفهم معنى الوطن ومصالحه وحاضره ومستقبله، وفق تعبير الخارجيّة السوريّة.
في الختام، اعتادت واشنطن أن تترك حلفاءها في منتصف الطريق، وهذا ما ستفعله اليوم، فالمسألة مسألة وقت لا أكثر. سوريا ستبقى لأهلها، وهذه الأوهام ستتكسّر قريباً مع سقوط المشروع الأمريكي بالكامل، وبعد الامتحان يكرم المرء أو يهان!