الوقت- مع استمرار تدهور العلاقات بين تركيا وشركائها في حلف الناتو ولا سيما العلاقات المتوترة بين أنقرة وواشنطن، فإن الأخيرة بدأت تبحث عن بديل جديد يكون مرتكزاً داعماً للقوات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وفي عمق أوروبا الشرقية.
ويبدو أن واشنطن وجدت ضالتها في الخصم التاريخي لتركيا وجارتها الأوروبية الأقرب "اليونان" التي تنظر بعين الرضا إلى هذا التطور، نظراً للصراع المستمر منذ عدة سنوات بين اليونان وتركيا، وما تشكّله هذه المرحلة الجديدة من سحب الدعم الأمريكي والأوروبي عن تركيا التي لم تخفِ طموحها باستعادة مجد الإمبراطورية العثمانية.
ليس خافياً على أحد بأن العلاقات بين تركيا واليونان في توتر مستمر، وليست وليدة اللحظة، خاصة أن الطرفين يحاولان إظهار التحدي والقوة ضد بعضهما، عبر المنابر السياسية من ناحية والعسكرية من ناحية أخرى، وظهر ذلك من خلال مساعي اليونان فرض السيطرة حول قضية قبرص، والتي انتهت بالفشل، حيث أرادت اليونان حينها انسحاب القوات التركية من الجزيرة إلا أن أنقرة رفضت الاستجابة، والجانبان لا يوفران أي فرصة لإظهار التحدي لبعضهما ويظهر ذلك جلياً من خلال الطلعات الجوية الاستفزازية المتبادلة فوق بحر ايجه.
الإدارة الأمريكية دخلت على الخط، وبدأت في اتخاذ قرارات واضحة وصريحة لنبذ تركيا وإحكام الخناق عليها في البحر المتوسط، وجاء تقارب العلاقات بين واشنطن واثينا كطعنة في الظهر للحليف التركي القديم، حيث بدت واشنطن أكثر رغبة في التعاون على كل المستويات مع البلد الأوروبي الذي تربطه علاقات تاريخية متوترة مع تركيا، وهذا ما كشف عنه صراحة السفير الأمريكي في اليونان جيفري بيات، الذي أكد أن بلاده لديها أهداف استراتيجية متقاربة مع تطلعات اليونان، "البلدان يشهدان علاقات متوترة مع تركيا"، وأضاف بيات: " لدينا مصالح متقاربة في بعض التحديات الأمنية الإقليمية الكبرى، سواء تمثل ذلك في داعش والتنظيمات الإرهابية، أم مواجهة الهجرة غير الشرعية، كما أن لدينا مصالح مشتركة حول منطقة غرب البلقان".
الالتفاف الأمريكي بعيداً عن تركيا والتوجه غرباً نحو اليونان أصبح البوصلة الأساسية لعمل الإدارة الأمريكية، إذ تداولت وسائل إعلام أنباء عن خطط الناتو (المدار مالياً ولوجستياً وعسكرياً من قبل واشنطن بشكل شبه كامل) لنقل الأسلحة التابعة للحلف من قاعدة إنجرليك التركية إلى قاعدة أراكسوس اليونانية، وذلك على خلفية تدهور العلاقات بين تركيا وشركائها في الناتو.
هذه التحركات جاءت بالتزامن مع الأنباء التي تتحدث عن نية حكومة أثينا نشر الأسلحة النووية في قاعدة أراكسوس قرب مدينة باتراس اليونانية أو في قاعدة سودا بجزيرة كريت، من خلال البدء بترميم واستحداث القاعدة العسكرية التي أغلقت عام 2001 كي تنشر هناك الأسلحة النووية الأمريكية رغم الاعتراضات الشعبية الواسعة.
وشكلت زيارة رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، الجنرال جوزيف دانفورد إلى أثينا، ومحادثاته مع نظيره اليوناني الأميرال إيفانغيلوس أبوستولاكيس، نقطة مهمة في التوجهات الأمريكية الجديدة، حيث سعت واشنطن إلى إظهار جديتها لأنقرة في تنويع بنيتها العسكرية المنشورة في شرق البحر الأبيض المتوسط، التي تسمح لها بالسيطرة، من بين أشياء أخرى، على الجزء الغربي من الشرق الأوسط.
بالإضافة إلى عملية نقل الأسلحة من تركيا واستحداث قواعد عسكرية جديدة في اليونان حيث إن هناك ارتفاعاً واضحاً لمستوى التحرك العسكري والمناورات التي تجريها أمريكا قبالة السواحل اليونانيّة والتي تشكل استفزازاً خطيراً للجانب التركية.
وفي ضوء ما ذكر لا نستبعد أن يكون الأمر مجرّد تلويح للجانب التركي نظراً لأن الواقع الجيوسياسي التركي يفوق الواقع الجيوسياسي اليوناني بأضعاف، كما أن واشنطن ربما أرادت استفزاز تركيا باليونان بنفس طريقة أنقرة في استفزاز واشنطن بتقاربها مع روسيا، فأنقرة انخرطت في خطة جديدة لإحراج واشنطن وأوروبا بعد أن تجاهلت سلسلة من التحذيرات المتتالية، التي أطلقتها واشنطن بشأن شراء منظومة الدفاع الجوية الصاروخية الأكثر تطوراً في روسيا S-400، التي تعدّ واحدة من الأسلحة الخطيرة، التي تسعى أمريكا لمنعها في العديد من دول العالم.
ورغم ذلك فان حكومة أثينا تعتبر تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في اليونان بمثابة هدية من القدر، في ظل تدهور العلاقات بين أمريكا وتركيا، ولكن تبقى القضية المحورية هي مدى جدية النوايا الأمريكية، هل هي ليّ ذراع لتركيا وتهديدات عابرة فقط؟، وأم إنّ الأمر أكثر جدية من ذلك؟، فرغم كل شيء، لا يمكن استبعاد أن يكون إعلان النية بتحويل القواعد العسكرية من تركيا إلى أراضي اليونان وتشكيل مخفر أمريكي شرق البحر الأبيض المتوسط (الدور الذي تقوم تركيا حتى الآن بتنفيذه) مجرد محاولة للضغط على أنقرة لإجبارها على تقديم تنازلات، رغم ما يترتب على هذا القرار والمضي به حتى النهاية من تكاليف مالية ضخمة مطلوبة لنقل القوات الجوية والبحرية الأمريكية من تركيا إلى اليونان، ومن ثم قطع شعرة معاوية مع أردوغان وحكومته.