الوقت - في هذه الأيام تشهد علاقات باكستان، الدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان والمجاورة للجمهورية الإسلامية في إيران، مع أمريكا تطوراً غريباً، وهو بالطبع أمرٌ مهم جداً بالنسبة لرؤية إيران الاستراتيجية الطويلة الأمد.
إن قصة هذه التطورات، بالإضافة إلى تحليل الظروف الإقليمية يساعد في فهم هذه التحولات المهمة ما يؤكد أن العلاقات الدولية هي مشهد معقد ومتعدد الأبعاد للغاية، في بعض الأحيان تكون هذه التطورات والأحداث غير مقصودة، وهي ليست بذلك عندما نتكلم عن القوى العالمية التي تعمل على ضمّ استراتيجيات معينة لإيجاد هذه التحولات من أجل تحقيق مصالحها وأهدافها في منطقة معينة.
قصة باكستان هي واحدة من أفضل الأمثلة على هذه الظاهرة، فأثناء عهد أوباما ازدادت الفجوة بين أمريكا وباكستان وذلك في أعقاب الضربات الجوية الأمريكية الواسعة النطاق على الأراضي الباكستانية، هذه الفجوة ازدادت أكثر وأكثر في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب، الذي يفضّل جارتها الهندية عليها (كانت الهند وباكستان تتنافسان لسنوات عديدة وتشتركان في صراعات حدودية وسياسية)، حيث يعتبرها حليفاً قوياً مقابل التنين الصيني.
وقد أثّر التقارب الأمريكي الهندي من أجل مواجهة الصين، إضافة إلى احتلال أمريكا لأفغانستان بشكل كامل، على سياسة واشنطن في جنوب آسيا ويعتبر ترامب باكستان عديمة الجدوى في استراتيجية أمريكا لمواجهة الصين، بل يرى أن إضعافها يصبّ في مصلحة الهند ووجوده العسكري في أفغانستان، كما أن كره وحقد ترامب بشكل عام للمسلمين إضافة إلى تورط باكستان مع السعودية في مشروعها الإسلامي المتطرف جعلت باكستان هدفاً سهلاً لهجمات ترامب وحلفائه.
ومن الأمثلة على تغيّر تموضع أمريكا في علاقاتها مع باكستان الهجمات التويترية التي يشنّها ترامب بين الفينة والأخرى عليها واتهامها بعدم التعاون في الحرب ضد الإرهاب. كما أن الجنسية الباكستانية لمنفذي الهجمات الإرهابية في أمريكا كهجوم سان برناردينو عام 2015 على مركز خدمات لذوي الإعاقة العقلية بولاية كاليفورنيا، والذي أدّى إلى مقتل 14 شخصاً وإصابة 24، زاد الحساسية بين الطرفين، وعلى الرغم من أن الباكستانيين ليسوا على قائمة حظر دخول أمريكا، إلا أن الضغوط والقيود زادت عليهم أكثر بعد هذه العمليات.
في المقابل لم تقف باكستان مكتوفة الأيدي بعد هذه التحولات في المواقف الأمريكية الأخيرة تجاهها، وبعد إتمام اتفاقها الاقتصادي مع الصين في مشروع "الأحزمة والطرق"، والذي أدّى فقط إلى استثمار الصين أكثر من 62 مليار دولار أمريكي في قطاع البنية التحتية في الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني.
بدأت باكستان العمل على تطوير علاقاتها مع جيرانها وأجرت عدة تغيرات، من بينها إقالة قائد الجيش الباكستاني، الجنرال رحيل شريف المقرّب من السعودية ومن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتعيين الجنرال جاويد بيجوا، وهو شخصية مستقلة ديمقراطي يعمل على تحقيق التوازن الردعي مع جارتها الهند.
ومن التغييرات الأخرى التي قامت بها باكستان في الآونة الأخيرة، هي تفعيل علاقاتها مع جارتها الأخرى إيران، ما أدّى إلى تفعيل الزيارات بين الطرفين في السنتين الماضيتين بعدما كانت العلاقات بين الطرفين ضعيفة، إضافة إلى الزيارة الأخيرة التي قام بها الجنرال جاويد بيجوا إلى سوريا والاجتماع مع القادة العسكريين الروس، والتي تتزامن مع زيارة شمخاني إلى روسيا، هي علامات أخرى على هذا التغيير المهم في السياسات الاستراتيجية لباكستان.
ولقد أسهمت الأحداث الأخيرة التي وقعت في الأشهر القليلة الماضية في هذا التحول في العلاقات الأمريكية الباكستانية. أولاً، حذر المسؤولون العسكريون الباكستانيون، الأمريكيين من استمرارهم في اعتماد سياسة الضغط على باكستان، كما قاموا بإلغاء الأذن الممنوح للطائرات العسكرية والطائرات من دون طيار الأمريكية من العبور فوق الأجواء الباكستانية وتنفيذ ضربات عسكرية داخل باكستان. كما أتت حادثة صدم الملحق العسكري الأمريكي جوزيف إيمانويل هول، لمواطن باكستاني ما أدّى إلى قتله لتشتعل الأزمة بين الطرفين، حيث قامت السلطات الباكستانية إثر ذلك بمنع هول من السفر خارج الأراضي الباكستانية، وقال القاضي المسؤول عن القضية إنه في الوقت الحاضر لا يمكن إيقاف الملحق العسكري، لأنه يتمتع بحصانة دبلوماسية، مضيفاً إن التحقيق في هذه القضية سيستمر حتى النهاية. وأوضح أنه لا يمكن للمحكمة استدعاء هذا الملحق العسكري، إلا إذا سحبت أمريكا الحصانة الدبلوماسية عنه، ما زاد من السخط الشعبي على سياسة أمريكا في باكستان، في المقابل منعت الإدارة الأمريكية خروج الدبلوماسيين الباكستانيين من السفارة الباكستانية في أمريكا، وذلك ضمن دائرة نصف قطرها 25 ميلاً حول السفارة.
ويعدّ الاستقبال المهيب الذي حظي به قائد الجيش الباكستاني الجنرال بيجوا والوفد المرافق له في موسكو من جانب القوات العسكرية الروسية إشارة أخرى إلى ازدياد الفجوة بين كل من أمريكا وباكستان، بالإضافة إلى السياسة المتهورة التي يعتمدها ترامب مع كل من الصين وإيران وروسيا واحتمال خروجه القريب من الاتفاق النووي في 12 أيار مايو القادم سيؤثر بشكل كبير على الأوضاع في كل آسيا، من الشرق والجنوب إلى الغرب.