الوقت- جاء إعلان الزعيم الكوري، كيم جونغ أون يوم السبت 21 أبريل/نيسان 2018، صادماً للبعض ومربكاً للبعض الآخر، فالزعيم الشاب "34 عاماً" أعلن أن بلاده قررت تعليق إجراء تجارب نووية وإطلاق صواريخ باليستية عابرة للقارات، وأشار إلى أن بيونغ يانغ لا تحتاج بعد إلى إجراء تجارب نووية وصاروخية، لأنها استكملت التسلح النووي، مضيفاً إنه قرر أيضاً إغلاق ميدان التجارب النووية في الجزء الشمالي من البلاد للتأكيد على وعده بوقف الاختبارات.
ذكاء استراتيجي أم لعب بالنار
الإعلان جاء صادماً للمجتمع الدولي لكون جونغ اون أعلن مراراً أن امتلاك أسلحة نووية هو "الضمان الثابت الذي يمكن لأحفادنا من خلاله التمتع بالحياة الأكثر سعادة واحتراماً في العالم"، إذاً ما الذي تغير ولماذا الآن وفي هذا التوقيت، وهل هذا الإعلان هو بمثابة استسلام للحلف الأمريكي أم مراوغة ذكية مع الأمريكي بعد أن استكملت بيونغ يونغ التسلح النووي؟!.
أولاً: مع نهاية العام الفائت أطلقت بيونغ يانغ صاروخاً بالستياً جديداً عابراً للقارات "هواسونغ-15"، يزوّد بمنظومة أسلحة، قادر على حمل رأس نووي ثقيل كبير جداً، ويمكنه ضرب جميع الأهداف على كامل أراضي أمريكا، ويعتبر هذا الصاروخ الأقوى للبلاد وحلّق لمسافة 950 كيلومتراً لمدة 53 دقيقة ووصل إلى ارتفاع 4475 كيلومتراً، فكيف لمن يعلن عن مثل هذه الصواريخ أن يفكك ترسانته النووية؟!.
في الحقيقة يُظهر تحليل سلوك كوريا الشمالية أنها تسعى إلى إنشاء "نظام أمني" لنفسها، يتكون النظام الأمني من عنصرين: "الردع" و "التحكم في الأسلحة"، العنصر الأول سعت إليه كوريا الشمالية لعقود طويلة حيث عملت على تطوير أسلحتها بشكل مستمر للوصول إلى مرحلة تصبح فيها البلاد قادرة على ردع كل من يفكر بالاعتداء عليها، ويبدو أنها حققت ذلك مؤخراً؛ "هواسونغ-15" نموذجاً، وللتذكير فقد قدّر مراقبون حجم التفجير السادس والأخير لبيونغ يانغ في سبتمبر الماضي والذي أحدثه "هواسونغ-15" بـ250 كيلوطناً، أي 16 مرة أقوى من القنبلة الأمريكية التي دمرت هيروشيما عام 1945.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد ففي العام 2016 قدّرت كوريا الجنوبية امتلاك الشمال لـ 50 كيلوجراماً من البلوتونيوم تكفي لصنع عشر قنابل نووية، لكن أمريكا تعتقد أن كوريا الشمالية تملك عدداً أكبر من القنابل، هذه الأرقام وغيرها تشي بأن بيونغ يانغ وصلت إلى قوة ردع كفيلة بأن تجعلها تناور سياسياً مع الخصم لكي تخرج من دائرة الاتهام التي يوجهها لها الغرب وتُحرج واشنطن في أي مفاوضات قادمة قد تفكر فيها الأخيرة بإلقاء اللوم على بيونغ يانغ.
وتعتبر بيونغ يانغ نفسها اليوم في موقف تفاوضي قوي بعد الإنجازات النووية التي حققتها خلال العام 2017، فقد أصبحت في أعين شعبها وأعين العالم قادرة على الدفاع عن نفسها، بحسب صحيفة "لوجورنال دو ديمانش" الفرنسية.
ثانياً: الآن أصبح بإمكان كوريا الشمالية البحث عن العنصر الثاني "الحد من التسلح" بعد أن اكتملت قوة ردعها، وبالتالي خلق بيئة آمنة محصنة من أي عدوان محتمل عليها مثل جميع الدول التي تملك أسلحة نووية، من خلال إقامة هذا النظام الأمني، لذلك، في أي مفاوضات محتملة مع أمريكا، من المتوقع أن تؤكد كوريا الشمالية على حق الدفاع عن نفسها ضد الوجود المتنامي والعدائي لأمريكا في تلك المنطقة واعتبار ذلك "خطاً أحمر" بالنسبة لها.
وكلام جونغ أون حول وقف إجراء تجارب صاروخية عابرة للقارات ليس من الضروري أن يكون للأبد، وهناك احتمال كبير بأن يترك خطاً للعودة، وقد تحدث عن ذلك مستشارو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حيث شكك هؤلاء بنية كوريا الشمالية في التخلي عن مواصلة التجارب النووية والصاروخية، واصفين وعود بيونغ يانغ بأنها "فخ" لا غير.
وكتبت صحيفة "واشنطن بوست" أن المستشارين الرئاسيين يشعرون بالقلق من أن قرار زعيم كوريا الشمالية تقديم "وعود متواضعة نسبياً" يمكن أن يستردها بسرعة، وفي رأيهم يريد كيم أن "يخلق وهماً" بأنه "عقلاني" ومستعد للحوار، كما يظنون، أنه سيكون بفضل ذلك من الصعب بالنسبة لأمريكا لاحقاً رفض مطالب كوريا الشمالية.
ثالثاً: الزعيم الكوري واضح أنه في موقف قوة وليس ضعف خاصة بعد اكتمال منظومته النووية، لذلك نجده اليوم أكثر مرونة من أي وقت مضى، فقد فتح طريقاً للحوار مع جارته الجنوبية في 20 أبريل، وأرسل قبلها فريق بلاده الرياضي للمشاركة في الألعاب الأولمبية التي أقيمت في سيول، وفي 21 أبريل أعلن وقف التجارب النووية والباليستية، وإغلاق موقع شمالي للتجارب النووية.
هذا الانفتاح من قبل بيونغ يانغ سيغلق الطريق أمام الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب ويمنعه من التغريد على حسابه على "تويتر" ضد الزعيم الكوري، ومن المقرر أن يلتقي ترامب وجونغ أون في أواخر الشهر المقبل وفي حال فشلت المفاوضات سيتحمل الجانب الأمريكي نتائج هذا الفشل.
رابعاً: قد يرى البعض أن سبب انفتاح جونغ أون بهذا الشكل يعود لأسباب اقتصادية بحتة، كون الزعيم الكوري يبحث عن تحسين الأوضاع المعيشية في بلاده، فقد قال الرجل ذات مرة: "يتعيّن على الحزب بأكمله والأمة بأسرها التركيز الآن على تنمية الاقتصاد الاشتراكي للبلد".
وبحسب "لي يونج سوك"، الوزير السابق للوحدة في كوريا الجنوبية الذي نقلت عنه صحيفة نيويرك تايمز قوله: "يحاول (كيم جونغ) أن يحاكي النمو الاقتصادي السريع الذي صنعته الصين، كوريا الشمالية التي يتصورها مختلفة عن التي كان يراها والده".
أما الخبير الكوري بكلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس الأمريكية، فيرى أن ما يفعله الزعيم الكوري الشمالي هو عودة لأسلوب "تكتيك" قديم محاولاً إرباك الأعداء عبر المبادرات الدراماتيكية في سعيه نحو كسب التعاطف، في وقت لا ينوي فيه التخلي عن أسلحته النووية.