الوقت – منذ توقيع الإتفاقية الأشهر في عالم الاقتصاد في العام 1944 والتي عُرفت باتفاقية (بريتون وودز) وسُمح للدولار الأمريكي خلالها بأن يكون السيف المسلط على رقاب حكومات العالم، لا سيما تلك الحكومات التي تُحاول الخروج من العباءة الأمريكية، بدأت واشنطن بتسليط سيف الدولار عليها تحت مسمى "العقوبات الإقتصادية" في محاولة منها –أي واشنطن- لإعادة تلك الدول إلى بيت الطاعة الأمريكي.
بريتون وودز
كعادتها.. استغلت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالمية الثانية لتوسيع نفوذها في العالم، لتسير الريح على الهوى الذي اشتهته السفن الأمريكية، وربما أفضل، حيث عمد الأوروبيون وخلال الحرب إلى نقل أرصدتهم الذهبية المكدسة في خزائن وبنوك الدول الأوروبية إلى الخزائن والبنوك الأمريكية والتي قُدّر وزنها بالأطنان، لتستغل واشنطن هذا الكم الهائل من الذهب وتطبع مقابله مليارات الدولارات المغطاة بالذهب، ومن ناحيةٍ أخرى خرجت أوروبا من الحرب المذكورة محطمة ومدمرة يعمها الشلل الاقتصادي والاضطراب المالي، ليصبح الدولار الأمريكي هو المسيطر في أوروبا، ومن ثم العالم بأسره.
هنا وكما يقول اقتصاديون استطاعت أمريكا أن تقوم بإعادة بناء العالم على الشكل الذي ترغبه، لتتمكن واشنطن من فتح الأسواق أمام منتجاتها وصناعاتها ومستثمريها، وذلك بناء على الاتفاقية التي باتت تُعرف بـ "بريتون وودز" وما نتج عن تلك الإتفاقية من مؤسسات مالية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وإنتهاءً باتفاقية التجارة الدولية "الجات"، والتي كانت جميعها تحت سيطرة الإدارة الأمريكية.
السيف الأمريكي
القاعدة التي انطلقت منها أمريكا في تزعم العالم كانت إتفاقية "بريتون وودز"، ليبدأ العالم ومنذ تلك الإتفاقية يعيش على نظام نقدي دولي جديد عُرف بـ :"قاعدة الصرف بالذهب" ليصل الدولار بعدها إلى قمة هرم الإقتصاد والمال، واستطاع أن يكون وحدة التبادلات التجارية والتحويلات المالية الرئيسية في العالم، كما أصبح دور الذهب ثانوياً.
ومع هذه التحولات أصبح السند والداعم الرئيسي للدولار الأمريكي ومن ثمّ الاقتصاد الأمريكي هو صندوق النقد الدولي، ومن بعده مجموعة البنك الدولي، حيث تحول صندوق النقد الدولي إلى مهمّة جديدة تمثّلت بالتدخل في ميزانيات الدول الأعضاء، والإشراف والمراقبة والمعالجة إذا لزم الأمر، وأصبح البنك الفدرالي الأمريكي مركز الثقل الإقتصادي الدولي لفترةٍ طويلة من الزمن استمرت حتى أواخر الخمسينات.
نكسة ونهوض
ذلك الازدهار لم يدم طويلاً، ليتعرض بعدها الدولار الأمريكي لنكساتٍ كبيرة وانخفضت قيمة الذهب من 100٪ إلى أقل من 20٪، الأمر الذي أصاب الاقتصاد الأمريكي بعجز كبير، رافقه انخفاض في ميزان المدفوعات، وفي الميزان التجاري مع كثير من الدول.
أوروبا التي صحت متأخراً وعلمت بالخطّة الأمريكية سارعت إلى تدارك الأمر، حيث قام الرئيس الفرنسي "شارل ديغول" بعمليات استبدال بالمليارات مرات عديدة، كما قامت بريطانيا بنفس العملية، من أجل تفريغ الخزائن الأمريكية من الرصيد الذهبي، وفي عام 1968م أُصيب الدولار بأزمةٍ كبيرة اضطر الرئيس الأمريكي نيكسون في العام 1971 إلى إصدار قرار بإلغاء تبديل الدولار بالذهب، ووضع القيود على كل الصادرات الخارجية التي تدخل الولايات المتحدة بنسبة 10٪.
قرار نكسون الجريء رافقته احتجاجات عالمية كبيرة، وأقفلت البنوك أبوابها، كما توقفت المؤسسات المالية والبورصات العالمية عن العمل، غير أنّ أمريكا أصرت على قرارها، لينتقل العالم مع هذا القرار إلى مرحلة جديدة في نظامه النقدي وهي مرحلة "هيمنة الدولار".
عقوبات خلبية
العقوبات الاقتصادية التي باتت تُعتبر السلاح الأقوى لواشنطن إذا عجزت عن الحرب العسكرية، باتت وكما يقول مراقبون لا تؤتي أُكلها، خصوصاً بعد عدد من التجارب الفاشلة التي اتبعت خلالها الإدارات الأمريكية المتعاقبة سياسة فرض العقوبات الاقتصادية.
يؤكد خبراء أنّه وبعد اضمحلال الدور الأمريكي عالمياً؛ أصبحت العقوبات لا تجدي نفعاً، خصوصاً مع تعدد الأقطاب وإنشاء الدول لمجموعة من الشَّراكات أغنتها عن الحاجة إلى الشراكة الأمريكية "بريكس"، فيما يذهب محللون إلى أبعد من ذلك؛ حيث يرى البعض أنّ واشنطن وعلى الرغم من رغبتها وتهديدها مراراً بفرض عقوبات على دول كالصين مثلاً؛ وهو ما يردده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، غير أنّها لا تستطيع فرض هكذا عقوبات، حيث أنّ هذا الأمر يتجاوز صلاحيات ترامب، لما له من آثارٍ ستضر بالمصالح الأمريكية، ناهيك عن وجود مؤسسات سياسية أخرى يتعين عليها في مثل هذه الظروف التدخل لعرقلة القرار إذا رأت أنه لا يحقق مصلحة أمريكا.
وعلى الرغم من القوة الكبيرة للإقتصاد والدولار الأمريكي، إلّا أنّ التجارب أثبتت أن أيّ دولة وفي حال اتخاذها لقرار المواجهة مع أمريكا؛ فإنّه باستطاعتها أن تعتمد على الناتج المحلي لها، وما تجارب كـ "كوريا الشمالية، فنزويلا، إيران وروسيا" إلّا شاهداً حيّاً على إمكانية مواجهة العقوبات الأمريكية وإجبار واشنطن على الجلوس إلى طاولة المفاوضات والخضوع لمنطق التفاوض والعقل، بعيداً عن الإملاءات المعهودة.