الوقت - لم تعد أوروبا كما كانت في السابق قادرة على تصدير أزماتها إلى الخارج نتيجة الخلافات التي تعتريها، خصوصاً فيما يتعلق بالمساعي التي تبذلها بعض الإقليم للانفصال عن عدد من الدول الأوروبية ما ينذر باحتمال تجدد النزاعات القديمة في القارة العجوز.
ومع تنامي النزعات القومية لبعض الشعوب خلال العقود الأخيرة شهد عدد من الدول الأوروبية محاولات تدعو إلى الانفصال كما حصل مؤخراً في إقليم "کتالونیا" شمال شرق إسبانيا، حيث صوّت أكثر من 90% من مواطني الإقليم لصالح الانفصال.
ويزعم المطالبون بالانفصال في كتالونيا بأن منطقتهم التي تنتج خمس إجمالي الناتج القومي لإسبانيا، لازالت تعاني من آثار حكم الديكتاتور "فرانشيسكو فرانكو" بين عامي 1939 و1975 الذي منع اللغة الكتالونية في مدارس الإقليم.
وكانت الحركة الموالية لانفصال كتالونيا في ذروة اتقادها عام 2012 أثناء الركود الاقتصادي الحاد في إسبانيا، وعندها خرج حوالي مليون شخص إلى الشوارع ملوّحين بالعلم الكتالوني ومرددين النشيد الوطني للإقليم.
أما بالنسبة لخروج كتالونيا من الاتحاد الأوروبي، فالأمر محسوم حيث أن المفوضية الأوروبية تكرر دائما تحذيرها للحكومة الكتالونية من خروج الإقليم تلقائياً من الاتحاد الأوروبي بمجرد حصوله على الانفصال من إسبانيا، حيث يرى الاتحاد أن انفصال كتالونيا سيؤدى إلى المزيد من الانقسام، وانحاز رئيس المفوضية الأوروبية "كلود يونكر" لرئيس الحكومة الإسبانية "ماريانو راخوي" في موقفه الرافض لانفصال كتالونيا.
ويعد استفتاء "کتالونیا" من أسوأ الأزمات التي تعرضت لها إسبانيا منذ عشرات السنين، خصوصاً بعد اندلاع أعمال عنف في الشوارع بين المؤيدين والمعارضين للاستفتاء.
وأثارت هذه الأزمة مخاوف من الاضطرابات وإطالة أمد التوتر السياسي في أغنى مناطق البلاد، ما قد يعمق الانقسام بين مدريد وبرشلونة ويهدد الآفاق الاقتصادية.
وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من الدول الأوروبية تواجه أزمات حقيقية في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية، بالإضافة إلى الانكسارات التي منيت بها هذه الدول على الصعيد الخارجي بسبب سياساتها غير المتوازنة إزاء القضايا الدولية لاسيّما في الشرق الأوسط.
وقد أثرت هذه الانكسارات سلباً على مجمل الأوضاع في القارة الأوروبية، ما دعا بعض الأقاليم إلى طلب الانفصال عن عدد من دول هذه القارة بعد تفاقم النزاعات الحدودية والخلافات الثقافية في تلك المناطق.
فإقليم كتالونيا ليس الوحيد الذي يطالب بالانفصال عن إسبانيا، بل هناك مناطق أخرى أكبرها إقليم الباسك تطالب بالانفصال أيضاً على الرغم من حصوله على أوسع حكم ذاتي في البلاد.
حركات انفصالية في بلجيكا
تتصدر بلجيكا بالرغم من صغر أراضيها قائمة الدول الأوروبية التي تعاني من الخلافات الداخلية، إذ تتعايش فيها قوميتان كبيرتان، هما الفلامنديون الناطقون باللغة الهولندية (58% من تعداد سكان البلاد) والوالونيون الناطقون بالفرنسية (32%)، فضلاً عن قومية ثالثة ناطقة بالألمانية.
وكان تاريخ بلجيكا منذ نشوء البلاد في عام 1830 مليئاً بالخلافات وسوء التفاهم بين القوميات الكبرى، وذلك بالتزامن مع خلافات طائفية بين المواطنين الكاثوليكيين والبروتستانتيين.
وتأسس في فلاندريا في عام 1979 حزب "التكتل الفلاندري" (خلفه الحالي حزب "المصلحة الفلاندرية") الذي يطالب بانفصال الإقليم وإقامة دولة مستقلة. وتمكن مؤيدو الانفصال من إحراز نجاحات في الانتخابات البلدية والتشريعية، رغم محاولات الحكومة الحد من نفوذهم، ما جعل منهم قوة سياسية مؤثرة داخل البلاد.
الحركات الانفصالية في بريطانيا
لا تزال الحكومة البريطانية تسعى للتصدي لنشاط الحركات انفصالية في العديد من المناطق خصوصاً في إيرلندا الشمالية وويلز وجبل طارق. وكادت إسكتلندا أن تحصل على الاستقلال عبر الاستفتاء الذي أجري في 2014، لكن 55% من مواطنيها فضلوا البقاء مع بريطانيا، وتكررت الدعوات إلى تنظيم استفتاء جديد لاسيّما بعد قرار لندن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
إقليم "فينيتو" الإيطالي
نظّم في إقليم "فينيتو" الإيطالي في عام 2014 استفتاء لم يعترف به رسمياً، وصوّت فيه 89% من سكان المنطقة بـ"نعم" لصالح الانفصال عن باقي الأراضي الإيطالية. ومن المزمع أن يصوّت سكان إقليمي "فينيتو" و"لومبارديا" في 22 من الشهر الجاري على "مزيد من الحكم الذاتي".
وكشفت وسائل إعلام غربية عمّا أسمته حالة من الرعب بدأت تجتاح الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو بعد استفتاء كتالونيا. واعتبرت بعض الصحف الأوروبية قضية الاستفتاء بأنها سياسية أكثر مما هي اقتصادية أو قومية.
خلاصة يمكن القول بأن الحركات الانفصالية في أوروبا تمثل أزمة معقدة لها جذور سياسية وطائفية واقتصادية عميقة تعود إلى قرون ماضية، ويرى فيها البعض تهديداً بالعودة إلى القرون الوسطى حين كانت القارة منقسمة إلى دول متناثرة. ويبدو أن هذه العملية قد تغير صورة أوروبا في القرن الحادي والعشرين.