الوقت- انتهاء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي السابق وأمريكا في مطلع تسعينات القرن الماضي لم يحول دون بقاء هاتين القوّتين في موقف العداء، إلى درجة أن الكثير من المراقبين بات يعتقد باستحالة تحويلهما إلى صديقين.
وعلى الرغم من كون أمريكا والاتحاد السوفيتي كانا حلفاء في الحرب العالمية الثانية ضد قوات المحور، إلا أنهما اختلفتا في كيفية إدارة العالم ما بعد الحرب، ولم تنفع المحاولات الطفيفة للتقريب بين الجانبين إزاء عدد من القضايا، وبقي التنافس الاستراتيجي سيد الموقف نظراً للتقاطع بالمصالح والأهداف في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، والدليل الساطع على هذه الحقيقة يتمثل بلجوء أحد الطرفين إلى ما يسمى حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع تصويت قرار معين قد يصب في مصلحة الطرف الآخر.
ومع تفاقم الأزمات الدولية لاسيّما في الشرق الأوسط اتسعت الهوّة بين روسيا وأمريكا خصوصاً بعد اندلاع الأزمة السورية قبل ستة أعوام، بسبب المواقف المتباينة للجانبين حيال هذه الأزمة. كما لعبت الأزمة الأوكرانية دوراً بارزاً في تكريس هذا التوتر، خصوصاً بعد فرض أمريكا عقوبات اقتصادية ضد روسيا على خلفية هذه الأزمة.
وعلى الرغم من الشعارات التي أطلقها الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" خلال حملته الانتخابية بشأن إمكانية تحسين العلاقات مع روسيا، إلاّ أن الوقائع التي حصلت منذ دخوله البيت الأبيض في 20 كانون الأول/يناير 2017 وحتى الآن بيّنت أن تسوية التوتر بين واشنطن وموسكو أعمق بكثير من مجرد إطلاق شعارات وتتطلب حلولاً جذرية وخطوات عملية لترجمتها على أرض الواقع.
ولم يقتصر التوتر على مستوى الشعارات؛ بل تعداه إلى إمكانية نشوب حرب باردة ثانية بين الطرفين لأسباب عديدة يمكن الإشارة إلى بعضها على النحو التالي:
- إصرار واشنطن على اتهام موسكو بمحاولة توسيع نفوذها في أوروبا الشرقية و شمال البحر الأسود خصوصاً في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وما ترتب على ذلك من فرض عقوبات اقتصادية وسياسية من قبل أمريكا والاتحاد الأوروبي على روسيا.
- اتهام موسكو لواشنطن بعرقلة مساعيها للقضاء على الجماعات الإرهابية لاسيّما في سوريا.
- اتهام موسكو لواشنطن بمحاولة توسيع نفوذها في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا خصوصاً في منطقة بحر الصين الجنوبي.
- تفاقم التوتر بين الجانبين بسبب نشر أمريكا منظومة صواريخ حديثة في عدد من دول أوروبا الشرقية، الأمر الذي اعتبرته روسيا تهديداً مباشراً لأمنها القومي، ما دعاها لنشر المنظومة الصاروخية المتطورة المعروفة باسم "اسكندر" لمواجهة هذا التهديد.
- يتهم الطرفان أحدهما الآخر بنقض تعهداته بشأن المعاهدة الخاصة بتدمير الصواريخ الباليستية المعروفة اختصاراً باسم (INF) والرامية إلى الحد من سباق التسلح بين الجانبين..
- أعلنت روسيا قبل نحو أسبوعين أن مقاتلة تابعة لقواتها الجوية من طراز (سو-27) اعترضت طائرتين عسكريتين أمريكيتين فوق مياه بحر البلطيق، مشيرة إلى أن إحداهما نفّذت مناورة استفزازية باتجاه الطائرة روسية.
وجاء هذا الحادث على خلفية توتر كبير بعد إسقاط القوات الأمريكية مقاتلة سورية من طراز "سو-22"، ما أدى إلى ردود فعل حادة من قبل روسيا، التي أعلنت عن تعليق عمل المذكرة الخاصة بضمان أمن الطيران في المجال الجوي السوري بين قوات الجانبين.
وهذه الاعتراض الجوي ليس الأول من نوعه، فقد أعلنت وزارة الدفاع الروسية في 6 يونيو/حزيران الماضي، أن إحدى مقاتلاتها حلّقت لاعتراض الطائرة الاستراتيجية الأمريكية "بي-52" فوق بحر البلطيق، ورافقتها حتى ابتعدت عن حدود روسيا. ووقع هذا الحادث خلال المناورات العسكرية التي يجريها الحلف الأطلسي (الناتو) سنوياً بالقرب من الحدود الروسية. ويعد هذا التوتر من الحوادث النادرة منذ نهاية الحرب الباردة.
- تعتقد أمريكا بأن روسيا تمثل عقبة أساسية أمام توسعها العسكري في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد دخول موسكو على خط الأزمة السورية ووقوفها إلى جانب إيران والعراق ومحور المقاومة في التصدي للجماعات الإرهابية في عموم المنطقة.
هذه المعطيات وغيرها تدلل على أن أمريكا وروسيا قد دخلتا فعلاً مرّة أخرى في أتون الحرب الباردة، ما ينذر بإمكانية وقوع مواجهات مسلحة بين البلدين، خصوصاً في ظل الاختلاف الشديد بشأن الأزمة السورية وسبل مواجهة الجماعات الإرهابية، لاسيّما وأن موسكو تشعر بالخطر المتنامي لهذه الجماعات على سلامة أمنها، في حين تسعى واشنطن لتوظيف أزمة الإرهاب لتحقيق مصالحها على حساب الدول الإقليمية، الأمر الذي تعارضه روسيا وتحذر من تداعياته المشؤومة على الأمن والاستقرار في عموم المنطقة.