الوقت- بعد مخاض عسير وجولات متعاقبة من الأخذ والرد، طُرح فجر الثلاثاء مشروع القرار الأمريكي بشأن غزة للتصويت في أروقة مجلس الأمن الدولي، فحظي بموافقة ثلاثة عشر عضواً، في حين آثرت الصين وروسيا الامتناع عن التصويت، نُسج هذا القرار لإرساء “قوة دولية مُثبِّتة للاستقرار في غزة” تكفل وقفاً مديداً لإطلاق النار بين حماس والكيان الصهيوني.
تنبثق فكرة تشكيل هذه القوة من رحم خطة ترامب ذات البنود العشرين، حيث اقترح أن تنهض واشنطن، متضافرةً مع الدول العربية والمجتمع الدولي، بإنشاء قوة دولية مؤقتة للانتشار العاجل في أرجاء غزة المنكوبة.
تنطوي مهمة هذه القوة على تدريب وإسناد قوات الشرطة الفلسطينية في غزة، ويُفترض أن يُفضي وجودها إلى انبلاج فجر المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار، تلك التي تُعنى بالأبعاد السياسية والاقتصادية للاتفاق المرتقب.
يُتيح هذا القرار إمكانية تأسيس “مجلس السلام”، وهو هيئة حكم انتقالية لغزة تمتد ولايتها حتى انقضاء عام 2027، وستضطلع بمهمة الإشراف على إعادة إعمار القطاع المدمر وإنعاش اقتصاده المنهار.
من الناحية النظرية، يُجسد هذا المجلس مشروع تسليم دفة غزة للجنة تكنوقراط دولية يتزعمها توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، تحت جناح ترامب وإشرافه، وقد أكد الأخير هذا المسعى في بيان نشره على منصته “تروث سوشال” قائلاً: “أزف التهاني للعالم على التصويت المذهل لمجلس الأمن الذي أفضى إلى تأسيس مجلس السلام في غزة الذي سأتولى زمام رئاسته، هذا القرار يُعد من أروع التوافقات في سجل الأمم المتحدة، وسيفضي إلى سلام أرحب في أرجاء المعمورة”.
أفصحت خطة ترامب ذات البنود العشرين جهاراً أن غزة ستخضع لحكومة انتقالية مؤقتة لمدة عامين، تشرف على قوات حفظ سلام متعددة الجنسيات ولجنة من التكنوقراط الفلسطينيين وقوة شرطة محلية، وستنهض هذه اللجنة بمسؤولية تقديم الخدمات العامة اليومية لسكان غزة.
وعليه، فإن ذات المخاوف والمحاذير التي أثارتها خطة ترامب ذات البنود العشرين، والتي رمت إلى سلب الوصاية على غزة من أبنائها الفلسطينيين وربط مصيرها بمخططات أمريكية-صهيونية مستترة، تطفو الآن على سطح القرار الذي أقره مجلس الأمن بعد طول انتظار.
ضبابية في إقامة الدولة الفلسطينية
خلافاً للمسودات السابقة، يلمح القرار إلى احتمالية إقامة دولة فلسطينية في أفق المستقبل، لكن تنفيذ ذلك رهين بشروط متعددة ومرجأ لأجل غير منظور، ينص القرار على أنه متى استوفت السلطة الفلسطينية الإصلاحات المطلوبة وشرعت في إعادة إعمار غزة، قد تتهيأ الظروف لتقرير مصير الفلسطينيين بأيديهم وإقامة دولتهم المنشودة، يرى المحللون أن إدراج هذا البند في القرار لا يعدو كونه مناورةً استعراضيةً، وأن غاية أمريكا الجوهرية كانت استمالة أعضاء مجلس الأمن لتمرير القرار، إذ تنعدم الخطوات العملية لتجسيد هذا الوعد المعلق.
وعلى نقيض ما يروج له ساسة البيت الأبيض، يأبى حکام تل أبيب تقديم أدنى تنازل للفلسطينيين في هذا المضمار، فقد أكد بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان المحتل، وزمرة وزرائه المتطرفين مراراً أنهم لن يسمحوا بإقامة دولة فلسطينية ولو في أراضٍ نائية.
تصر واشنطن على السلطة الفلسطينية بالشروع في التحضير لتنفيذ القرار، في حين أن حكومة نتنياهو تنكر شرعية هذه السلطة وقادتها، بل إن إيتمار بن غفير، وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، تبجح بأنه أعدّ زنزانةً خاصةً لمحمود عباس.
في ظل هذه الأجواء المشحونة وتلك الرؤى المتطرفة، تصطدم أي مبادرة من السلطة الفلسطينية بعقبات شاهقة، ومن دون ضمانات راسخة من تل أبيب، ستظل مشاريع واشنطن للسلام وإقامة دولة فلسطينية مستقلة حبيسة الشعارات البراقة، وآفاق تحقيقها أقرب إلى المستحيل، ولا يمكن أن تكون بلسماً لجراح الشعب الفلسطيني، بل ستذوي معها آمال تحقيق حقوقه المسلوبة.
السلام سراب بعيد المنال
رغم مزاعم ترامب بأن القرار الأمريكي سيشق طريق السلام العالمي، إلا أنه مع اعتبار تجريد فصائل المقاومة من سلاحها شرطاً أولياً لإقامة الدولة الفلسطينية، فإن السلام المستدام في غزة سيظل حلماً بعيد المنال حتى مع انتشار القوة الدولية، ناهيك عن السلام العالمي المزعوم الذي يتشدّق به ترامب.
أكد قادة فصائل المقاومة مراراً وتكراراً أنهم لن يسلموا سلاحهم لأي قوة أجنبية حتى إقامة الدولة الفلسطينية وتهيئة الظروف للاحتفاظ بالسلاح في قبضة أبناء فلسطين، بينما يصر أقطاب تل أبيب على حسم هذه المسألة على وجه السرعة، وإلا فإنهم يلوحون بشن هجمات كاسحة على غزة.
رداً على إقرار القرار الأمريكي، أدانت حركتا الجهاد الإسلامي وحماس هذا المسعى، معلنتين أنه في جوهره فرض وصاية على غزة وانتهاك صارخ لحقوق الشعب الفلسطيني، وأن أياً من فصائل وشرائح الشعب الفلسطيني لن ترضخ لمثل هذا المخطط المشبوه، وشددتا على أن أي إجراء دولي لتثبيت وقف إطلاق النار، يجب أن يصون حقوق الشعب الفلسطيني واستقلالية قراره، ومن دون تحقيق هذا المبدأ الراسخ، لن يكون هناك حل جذري ومستدام في أرض غزة.
وفقاً لخطة ترامب وبموافقة الفصائل الفلسطينية، كان من المفترض أن تُعهد إدارة الشؤون السياسية والأمنية في غزة إلى فريق عمل من التكنوقراط وقوات الشرطة الفلسطينية، لكن ما تضمنه القرار هو تفويض جميع الشؤون لقوات أجنبية لا صلة لها بالتيارات الفلسطينية، هذا مسلك لا يمكن لقادة المقاومة القبول به أو الإذعان له، لذا، ستعمل هذه القوة المتظاهرة بحفظ السلام في واقع الأمر كذراع لواشنطن وتل أبيب، وستمهد السبيل للاحتلال التدريجي الشامل لأرض غزة.
شبح الاشتباك بين القوات الدولية والمقاومة
إن مخطط أمريكا لتشكيل قوة دولية في غزة، يكتنفه من الغموض ما جعل الصين وروسيا تريان نجاحه ضرباً من المحال، فبرأي هاتين القوتين العظميين، يتجاهل القرار الأمريكي حقوق ومصالح الفلسطينيين، ويمكن أن يوصد الباب نهائياً أمام حل الدولتين المنشود.
من أبرز البنود المثيرة للجدل في القرار المهمة الموكلة للقوة الدولية، والتي حسب فاسيلي نيبينزيا، مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة، قد تستحيل بحد ذاتها إلى بؤرة للتوتر والاشتباك في الأراضي المحتلة.
جدير بالإشارة أن القرار الأمريكي يخوّل القوات الدولية المُثبِّتة ضمان عملية نزع سلاح غزة، بما في ذلك جمع الأسلحة وتقويض البنى التحتية العسكرية، وهذا يحوّلهم عملياً إلى أدوات لتنفيذ مخططات الكيان الصهيوني ويزيد من احتمالية المواجهة المباشرة مع المقاومة الفلسطينية.
وهكذا، بدلاً من أن تضطلع هذه القوة بدور تخفيف حدة التوتر، قد تتحول إلى محرك لتأجيج نار الأزمة، إن استمرار مثل هذا النهج لن يجعل السلام في غزة أكثر هشاشةً فحسب، بل سيهدد أيضاً استقرار المنطقة برمتها، ويكشف أن تحقيق الأهداف الإنسانية والسياسية للقرار يصطدم في واقع الحال بعقبات جسيمة.
بيد أن الهوة السحيقة بين وجهات النظر الدولية وقادة أمريكا و"إسرائيل" حول طبيعة أهداف ومهام القوة الدولية للسلام، بلغت من الاتساع حداً يجعل تشكيل مثل هذه القوة محاطاً بسحب كثيفة من الشكوك والريبة، فالعديد من الدول التي أبدت استعدادها لإرسال قوات والمشاركة في مثل هذه الآلية، لم تقبل أصلاً بالمهمة المنصوص عليها في القرار لنزع سلاح حماس واعتبرتها ضرباً من المستحيل، في واقع الأمر، يطرح الجميع هذا السؤال الجوهري: كيف يمكن لقوة خارجية محدودة أن تحقق هدفاً عجز عنه جيش الاحتلال الصهيوني طوال عامين من الحرب الضروس بكل عتاده ومعلوماته وجرائمه النكراء؟
انعدام الضمانات التنفيذية
من الأسباب الجوهرية التي تعتري القرار الأمريكي غياب أي ضمانات تنفيذية لنجاح برامج القوة الدولية في غزة، حيث لم يُحدد حتى الجهة التي ستتولى زمام نشاط وقرارات هذه اللجنة الدولية، ورغم تبجح ترامب بأنه سيتولى شخصياً مسؤولية الإشراف، إلا أن هذا الادعاء يفتقر عملياً للمصداقية، لأن الإدارة الأمريكية تناصر تقليدياً وعلناً الكيان الصهيوني، واتخذت في كثير من المواقف مواقف منحازة بشكل فاضح.
في ظل هذه الظروف المريبة، يمكن بسهولة إلقاء تبعة أي إخفاق أو توتر محتمل في أداء هذه القوة الدولية على كاهل فصائل المقاومة، وهو سيناريو يوفّر أفضل ذريعة لمواصلة السياسات الاستيطانية والضغوط العسكرية ضد الشعب الفلسطيني، ووزراء حكومة تل أبيب المتشددون يترقبون منذ أمد بعيد مثل هذه الفرصة السانحة لمواصلة إجراءاتهم التعسفية بغطاء قانوني ودولي، وتوسيع نطاق القمع والتدمير.
أصرت روسيا والصين على أن تعمل القوة الدولية تحت مظلة الأمم المتحدة المباشرة لضمان الشفافية والحياد والتنفيذ السليم، ومع ذلك، رفضت واشنطن هذا المقترح وآثرت الاحتفاظ بالسيطرة على القوة بطريقة منفردة وتحت هيمنتها وهيمنة حلفائها، ورداً على هذا المسلك، صرح مندوب روسيا: “اليوم يوم قاتم لمجلسنا الموقر، فما وراء مصالح الأطراف المعنية، تبرز مسألة نزاهة مجلس الأمن، وبإقرار هذا القرار، انتُهكت تلك النزاهة والصلاحية الخاصة للمجلس”. تعكس هذه الكلمات القلق العميق للقوى الكبرى إزاء تقويض المبادئ الدولية وممارسة الضغوط الأحادية المسيّسة.
في خاتمة المطاف، فإن تشكيل قوة دولية في غزة وفق خطة ترامب، بانحيازها الجلي لصالح الكيان الصهيوني، يزيد من تعقيد المعضلة الأمنية بدلاً من إرساء دعائم السلام المنشود، كما أن غياب الضمانات التنفيذية والضبابية الكثيفة المحيطة بهذه القوة، ترفع من وتيرة احتمالات التوتر مع فصائل المقاومة، وتقوّض آفاق الاستقرار الحقيقي في المنطقة.
