الوقت- منذ اندلاع حرب الإبادة في غزة، لم يكتفِ كيان الاحتلال الغاصب بالقصف والدمار والتجويع، بل لجأ إلى أدوات أخرى أكثر خفاءً وأشد تأثيرًا، تستهدف البنية الصحية للقطاع وتحديدًا فئة الأطفال، الأكثر هشاشة والأشد حاجة للرعاية. ومن بين أبرز تلك الأدوات، عرقلة دخول مليون محقن مخصص لتطعيم الأطفال، وهي خطوة تعكس سياسة ممنهجة تستهدف شلّ النظام الصحي ومنع القطاع من مواجهة الأمراض والأوبئة التي تتفشى في بيئة النزوح المحمومة.
محقن "مزدوج الاستخدام"؟ ذريعة وُضعت لخنق الطفولة
لم يكن منع دخول شحنات المحاقن حدثًا منفصلًا؛ بل هو جزء من منظومة حصار محكمة يستخدم فيها كيان الاحتلال الغاصب جميع الأدوات الممكنة لشلّ عمل المنظمات الدولية. فقد أعلن ريكاردو بيريس، المتحدث باسم منظمة "اليونيسف"، أن:
كيان الاحتلال يعدّ المحاقن والثلاجات من الأشياء مزدوجة الاستخدام، ونجد صعوبة بالغة في الحصول على التصاريح الجمركية وتجاوز عمليات التفتيش… ومع ذلك فهي ضرورية.
هذا التصنيف يكشف حجم التعسّف؛ فالمحقنة ليست أداة قتالية ولا يمكن استخدامها لتهديد الأمن، بل هي وسيلة طبية تُستخدم لتطعيم الأطفال وإنقاذ حياتهم، لكن كيان الاحتلال يدرجها ضمن قائمة طويلة من المواد التي يزعم أن "لها استخدامات مزدوجة" بهدف تمرير سياسات خنق صحية لا تقل فتكًا عن القصف.
ويشمل هذا التصنيف:
المحاقن بجميع أنواعها، الثلاجات المخصّصة لحفظ اللقاحات، الأجهزة الطبية، الأدوية المعقمة ،حتى بعض أنواع الصابون ومستلزمات النظافة، كابلات الكهرباء وشواحن الأجهزة الطبية، مواد التطهير الأساسية
إن استخدام ذريعة "الاستخدام المزدوج" هو في الواقع استراتيجية حرب صحية، تُستخدم لمنع وصول العناصر الأساسية لاستمرار النظام الطبي، خصوصًا في بيئة يعيش فيها أكثر من مليون طفل نازح تحت الخيام.
الاحتلال وتحويل القانون إلى أداة حصار صحي
يستند كيان الاحتلال إلى ما يسمى "قوائم الرقابة الأمنية"، وهي قوائم يضعها بشكل أحادي دون رقابة دولية، ويصنف فيها آلاف المواد على أنها تشكل "خطراً أمنياً". هذا الإطار القانوني المزعوم يسمح له بعرقلة مرور أي شحنة يساعدها المزاج السياسي أو العسكري.
لكن المفارقة الصادمة أن: المحاقن تُمنع. ثلاجات اللقاحات تُرفض، مولدات الكهرباء المدرسية تُدرج ضمن الممنوعات. وحتى أكياس الدم تُعامل كمواد خطرة.
هذا الواقع يجعل عمل المنظمات الصحية والإنسانية أشبه بالمستحيل، ويحوّل كل قطعة طبية إلى معركة تفاوض مع الاحتلال الغاصب، بينما يتصاعد عدد ضحايا الأمراض وسوء التغذية.
منع دخول اللقاحات: حربٌ على المستقبل
إن منع دخول مليون محقن ليس مجرد عرقلة لإجراء فني داخل القطاع، بل هو قرار استراتيجي يعني حرمان أكثر من 600 ألف طفل من اللقاحات الأساسية. هذا المنع يؤدي إلى:
1. انهيار برامج التطعيم بالكامل حتى لو وصلت اللقاحات بكميات قليلة، لن تُستخدم دون محاقن وتعقيم وثلاجات.
2. ارتفاع خطر انتشار الأوبئة خصوصًا:الحصبة، الكبد الوبائي، شلل الأطفال، الكوليرا، الدفتيريا، التهابات الرئة الحادة
3. تهديد حياة الأطفال في مخيمات النزوح، الخيام المزدحمة بيئة مثالية لأي مرض للانتشار، ومع غياب التهوية والصرف الصحي يصبح الطفل أكثر عرضة للوفاة.
4. تحويل المساعدات إلى رهائن سياسية
كيان الاحتلال يستخدم حق الأطفال في اللقاح كورقة ضغط سياسي، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني.
سياسة "الموت البطيء": عندما يصبح منع الدواء أكثر فتكاً من القصف
منع دخول المحاقن والثلاجات والأدوية ليس قرارًا عبثيًا، بل يعكس استراتيجية تقوم على استنزاف السكان وإضعافهم صحيًا ليكونوا أقل قدرة على المقاومة أو الصمود.
لذلك توصف هذه السياسة بأنها حرب بطيئة لا صوت لها ولا دخان ولا انفجارات لكن نتائجها مميتة وممتدة لأجيال فالطفل الذي لا يحصل على لقاح اليوم، قد يصاب بمرض مزمن أو يفقد حياته بعد أشهر، دون أن يظهر ذلك في صور القصف أو الإعلام.
العراقيل في دخول الشاحنات: رحلة فحص تمتد لأيام
تمر الشاحنات المتجهة لغزة عبر سلسلة معقدة من الإجراءات تبدأ من تسجيل مسبق بعد ذلك فحص أمني أولي ومن ثم إعادة الفحص عند المعبر وبعدها فتح كامل للشحنة بأيدي جنود الاحتلال وفي الناهية انتظار الموافقة النهائية
تستغرق هذه العملية عدة أيام وربما أسابيع، مما يؤدي إلى: تلف الأدوية الحساسة وتعطل المعدات الطبية و تأخر حملات التطعيم بالإضافة إلى فساد الأغذية الخاصة بالأطفال وفي كثير من الحالات، يتم إعادة الشحنة بالكامل تحت ذريعة “نقص في الفحص” أو “عدم استيفاء المتطلبات”.
تأثير الحصار الصحي على مستقبل أطفال غزة
يؤكد الأطباء العاملون في القطاع أن "جيلًا كاملًا" مهدد بالإصابة بعاهات صحية دائمة، تشمل:
ضعف النمو الجسدي، تأخر النمو العقلي، تراجع المناعة المزمن، أمراض تنفسية مزمنة، العمى الناتج عن نقص الفيتامينات، الوفاة المبكرة، هذه الآثار لا تُرى بالعين، لكنها تتفاقم مع كل يوم يمنع فيه الاحتلال دخول المحاقن واللقاحات.
الأمم المتحدة… بيانات بلا قوة
رغم أن المتحدث باسم اليونيسف كشف العرقلة بشكل واضح، فإن الموقف الدولي ما يزال ضعيفًا:
بيانات شجب بلا تنفيذ
دعوات لضبط النفس
تكرار الإعراب عن القلق
لا ضغوط حقيقية لفرض دخول الأدوية
وهكذا يجد الاحتلال فراغًا قانونيًا وسياسيًا يتيح له مواصلة حربه الصحية ضد الأطفال، دون مساءلة حقيقية.
حرب تتجاوز الدبابات والطائرات
إن منع دخول مليون محقن إلى غزة ليس إجراءً إداريًا عابرًا، بل هو جزء من عقيدة الحصار التي يتبعها كيان الاحتلال لخنق القطاع. فالطفل الذي يُحرم من التطعيم اليوم هو ضحية لسياسة متعمدة تستهدف الجسد الفلسطيني منذ لحظة ولادته.
وفي الوقت الذي تتحدث فيه المواثيق الدولية عن "حق الطفل في الصحة"، يصرّ الاحتلال على تحويل هذا الحق إلى معركة، وعلى تحويل اللقاح إلى سلاح سياسي، وعلى تحويل كل عملية إنقاذ إلى صراع معقد حول التفتيش والتصاريح.
وما دامت هذه السياسات مستمرة، فإن الحرب على غزة لا تُخاض فقط بالقنابل، بل أيضًا بالحصار الطبي، ومنع اللقاحات، وتجويع الأطفال، وتركهم دون دواء. إنها حرب على المستقبل، تمارسها دولة احتلال تعرف تمامًا أن الطفل الذي لا يُطعّم اليوم… لن يعيش الغد بصحة، وربما لن يعيشه أصلًا.
