الوقت- شهد قطاع غزة خلال العامين الماضيين واحدة من أشد الأزمات الإنسانية في العصر الحديث. لم تُسفر حرب إسرائيل على القطاع الصغير المحاصر عن آلاف القتلى والجرحى فحسب، بل خلقت أيضًا موجة غير مسبوقة من الإعاقات الدائمة، وخاصةً بتر الأطراف.
تُشير الإحصاءات الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية وتقارير المنظمات الدولية إلى أن غزة تُسجل الآن أعلى معدل لبتر الأطراف بين الأطفال للفرد في العالم.
إحصاءات صادمة
أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة تسجيل 6000 حالة بتر حتى الآن، ربعهم أطفال وحوالي 12% نساء. منذ بدء الصراع في أكتوبر/تشرين الأول 2023، عانى أكثر من 42,000 فلسطيني من إصابات غيّرت حياتهم، منهم حوالي 6,000 يعانون من بتر أو إصابات بالغة في العمود الفقري والأطراف.
وأفادت لجنة الإنقاذ الدولية أن غزة تشهد الآن أعلى معدل لبتر الأطفال في العالم. كما ذكرت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة أن أكثر من 21,000 طفل أصبحوا من ذوي الإعاقة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023. وتقدر اليونيسف أن أكثر من 64,000 طفل قُتلوا أو أُصيبوا. تُظهر هذه البيانات أن لهذه الأزمة الجسدية عواقب نفسية واجتماعية وخيمة، حيث تُترك الأطفال مع إعاقات دائمة في سن مبكرة وهم في حاجة ماسة إلى الدعم النفسي والاجتماعي.
روايات من قلب الأزمة
ومن الأمثلة المؤلمة على هذه الأزمة راتب أبو قلق، وهو طفل يبلغ من العمر 9 سنوات من خان يونس. فقد والدته وشقيقه في هجوم إسرائيلي على منزله، وبُترت ساقه. كان راتب ناشطًا سابقًا في رياضات مختلفة، لكن بعد خضوعه لعملية جراحية، فقد حتى القدرة على ركل كرة القدم. صنع له ابن عمه أحمد طرفًا اصطناعيًا بدائيًا باستخدام أنبوب صرف صحي وحبل ليتمكن من اللعب مجددًا. ترمز هذه المبادرة البسيطة إلى سعي العائلات لاستعادة الأمل لأطفالها في ظلّ صعوبة الحصول على المعدات الطبية.
ومثال آخر على ذلك إبراهيم عبد النبي، وهو أب لأربعة أطفال أُصيب برصاصة أثناء جمعه الطعام وفقد ساقه. صنع هو وزوجته طرفًا اصطناعيًا بدائيًا باستخدام أنبوب صرف صحي وأسلاك ليتمكن من الحركة مجددًا وإعالة أسرته. قال عبد النبي للجزيرة: "أحب الحياة وأكافح من أجل استمرارها".
تُظهر هذه القصص أنه في ظلّ غياب المرافق الطبية، لجأ سكان غزة إلى حلول بدائية منزلية الصنع لصنع الأطراف الاصطناعية، وهو عمل يُمثّل رمزًا للمقاومة وانعكاسًا لعمق الأزمة الاجتماعية والنفسية.
أزمة البنية التحتية للرعاية الصحية
أدى الدمار الواسع الذي لحق بالمستشفيات والمراكز الطبية على يد النظام الإسرائيلي، إلى جانب الحصار ومنع دخول المعدات الطبية، إلى انهيار كامل لخدمات إعادة التأهيل في غزة. وتشير تقارير مشتركة صادرة عن منظمات صحية إلى أنه بحلول سبتمبر/أيلول 2025، سيُصاب أكثر من 170 ألف شخص، وسيحتاج 25% منهم على الأقل إلى إعادة تأهيل على المديين المتوسط والطويل.
حذّرت وزارة الصحة الفلسطينية من أن نقص المرافق والأجهزة المساعدة جعل الوضع الإنساني للأسر حرجًا. وقد حوّل هذا الوضع غزة إلى منطقة لا تتوفر فيها حتى أبسط الخدمات الطبية للأشخاص ذوي الإعاقة.
وفي هذا الصدد، أطلقت وزارة الصحة حملة دولية لجمع التبرعات لإنشاء صندوق لإعادة تأهيل مبتوري الأطراف. ونُفذت هذه المبادرة بالتعاون مع جمعية التعاون، ومؤسسة منيب، ومعهد الصحة العالمية في الجامعة الأمريكية في بيروت، وتهدف إلى إعادة بناء قطاع إعادة التأهيل في غزة.
أكد وزير الصحة الفلسطيني، ماجد أبو رمضان، التزام الوزارة بقيادة الجهود الوطنية لإعادة بناء منظومة إعادة التأهيل، ودعا إلى التنسيق بين المنظمات المحلية والدولية في إطار واحد. تُظهر هذه الردود أن أزمة إعادة التأهيل في غزة ليست قضية محلية فحسب، بل هي أيضًا مصدر قلق عالمي.
خطر الذخائر غير المنفجرة
في خضم هذه الأزمة، برز خطر جسيم آخر، ما زاد من حجم الكارثة سوءًا: وجود آلاف الذخائر غير المنفجرة والقنابل التي تهدد حياة عمال الإغاثة والأطفال وغيرهم ممن يعملون على إزالة الأنقاض.
أفادت دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام (UNMAS) بمقتل 52 فلسطينيًا على الأقل وإصابة 267 آخرين بالذخائر منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023. وتشير التقديرات إلى أن ما بين 5 و10% من الأسلحة التي أُطلقت على غزة لم تنفجر، مما حوّل المنطقة إلى حقل ألغام.
وأفادت مصادر محلية أن أكثر من 71 ألف طن من المتفجرات لا تزال موجودة في قطاع غزة. هذا التهديد المستمر لا يُعرّض حياة المدنيين للخطر فحسب، بل يُعيق أيضًا انتشال الجثث وإعادة إعمار المناطق المُدمّرة.
حذّر محمود بصل، المتحدث باسم الدفاع المدني، من أن وجود هذه المتفجرات إلى جانب الجثث والأنقاض يُشكّل مشكلةً جوهريةً لا تُطاق لأهالي غزة. فبالإضافة إلى الخطر الجسدي، يُشكّل هذا الوضع ضغطًا نفسيًا شديدًا على العائلات والأطفال.
الإعاقة، جرحٌ مفتوحٌ من آثار حرب غزة
تُظهر البيانات والروايات أن أزمة الإعاقة في غزة جزء من سياسة ممنهجة. لم يؤدِّ الاستخدام الواسع للأسلحة الثقيلة والقنابل العنقودية والصواريخ عالية الطاقة في المناطق المكتظة بالسكان إلى زيادة الخسائر البشرية فحسب، بل أدى أيضًا إلى خلق موجة من الإعاقات الدائمة بشكل متعمد. ويعتقد العديد من المراقبين أن هذا النهج هو محاولة لزيادة المعاناة الجسدية والنفسية للمدنيين وخلق ضغط اجتماعي على المجتمع الفلسطيني.
لا يمكن تجاهل الأبعاد الاجتماعية والنفسية للأزمة أيضًا. يواجه الأطفال إعاقات دائمة في سن مبكرة، وهم في حاجة ماسة إلى الدعم النفسي. وتكافح الأسر مع الضغوط الاقتصادية والاجتماعية لرعاية أفرادها من ذوي الإعاقة، ويعاني العديد من الأطفال والبالغين من الاكتئاب والعزلة بسبب عدم قدرتهم على المشاركة في الأنشطة اليومية. تُظهر هذه العواقب أن أزمة غزة ليست مجرد مشكلة جسدية، بل أثرت بشدة على المجتمع على المستويين النفسي والاجتماعي.
