الوقت- انعقد مؤتمر “شرم الشيخ” في ظاهره لإبرام اتفاق وقف إطلاق النار بين حركة حماس والكيان الصهيوني، غير أنه في حقيقته لم يكن سوى فصل جديد من المسرحية الأمريكية العتيقة للسلام المزعوم في غرب آسيا، مؤتمر صاخب حضره دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة وقادة عشرين دولة من بينهم مسؤولون عرب، ليُختتم بتلاوة بيانٍ يتشدّق بالسلام في ظاهره، بينما يكتنز في باطنه انحيازاً سافراً لصالح تل أبيب.
وفي الوقت الذي خلّفت فيه نيران الحرب المستعرة في غزة على مدى عامين، دماراً هائلاً وحصاداً مروعاً من الأرواح البريئة، كان الرأي العام يعقد الآمال على أن يكون مؤتمر شرم الشيخ فاتحة طريق لتحقيق العدالة واقتلاع جذور الاحتلال، بيد أن خطاب الرئيس الأمريكي ومضامين البيان الختامي أماطت اللثام عن حقيقة مغايرة، فالمؤتمر لم يُعقد لتضميد جراح الشعب الفلسطيني، بل لإعادة صياغة مصالح الكيان الصهيوني وتلميع صورته ضمن إطار جديد.
كل شيء لصالح الصهاينة
حمل البيان الختامي لشرم الشيخ في لهجته وبنيته شبهاً لا يخطئه البصير بـ"اتفاق أوسلو" عام 1993، ذلك الاتفاق الذي وُقِّع تحت أنظار بيل كلينتون رئيس الولايات المتحدة آنذاك، وشهد مصافحةً تاريخيةً بين إسحق رابين وياسر عرفات، لكن بعد ثلاثة عقود من الزمان، لم يفضِ هذا الاتفاق إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة فحسب، بل مهّد الطريق لتوسيع رقعة الاستيطان وتسريع وتيرة تهويد القدس الشريف، والآن، بعد انقضاء 32 عاماً، ها هو رئيس أمريكي آخر يضع على الطاولة وثيقةً صِيغت كل بنودها لمصلحة الصهاينة، متجاهلاً من جديد حق تقرير المصير للفلسطينيين، كأن التاريخ يعيد نفسه بصورة أشدّ مرارةً.
يرى ثلة من المحللين أن ما جرى في شرم الشيخ لم يكن سوى النسخة الثانية من أوسلو، تكراراً للمعادلة البالية نفسها التي قُدمت في ثوب جديد تحت مسمى “خطة ترامب للسلام”، تتردد في ثنايا هذه الخطة عبارات براقة مثل “السلام المستدام” و"التعايش السلمي" و"الأمن المشترك"، لكن لم يرد في أي من بنودها ذكر للحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، كحق عودة اللاجئين إلى ديارهم، ووقف الاستيطان الجائر، أو الانسحاب إلى حدود عام 1967، والأهم من ذلك كله إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة حقيقية.
أشاد بيان شرم الشيخ في أحد فقراته بـ"بدء مسار تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل منذ عهد أنور السادات"، وأكد في خاتمته أن على الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني التعايش جنباً إلى جنب في سلام وطمأنينة، كأن الظالم والمظلوم، المحتل والمحتَل، سيان في ميزان العدالة.
حتى في اتفاق أوسلو، رغم كل ثغراته وعيوبه، كانت هناك خطة خمسية لإقامة دولة فلسطينية، وتحديد مصير قضايا جوهرية كوضع القدس، واللاجئين، والمستوطنات الصهيونية، والحدود، أما في بيان شرم الشيخ الجديد، فلا أثر لمثل هذه الخارطة، ولا إشارة لتلك القضايا المصيرية. وكأن العالم العربي والغرب، بعد عقود من الإخفاق في حل النزاع الفلسطيني، قرروا الآن بدلاً من حل المعضلة، طمس معالمها وتغييب قسماتها.
قال ترامب في كلمته بالأراضي المحتلة بلهجة لا تخلو من غطرسة: “جئت إلى الشرق الأوسط لأجلب الأمن والسلام لإسرائيل”، وكفّت هذه العبارة وحدها لتبديد أي غموض حول مسار مؤتمر السلام المزعوم، فلطالما جهر بأن “أمن الكيان الصهيوني” هو حجر الزاوية في السياسة الخارجية لواشنطن، والآن في شرم الشيخ رسّخ هذه الرؤية في إطار اتفاق رسمي يُراد له أن يكون ملزماً.
بعبارة أدقّ، نهض ترامب في شرم الشيخ، وفي غياب قادة تل أبيب، بعبء الدفاع عن الصهاينة، وكما وصفت صحيفة الغارديان بدقة، “سعى وحده للحفاظ على ماء وجه إسرائيل المهراق”، في نظر ترامب، لم يعد للفلسطينيين مكان في أراضيهم التاريخية، ودورهم في الخطة الجديدة لا يعدو كونهم “سكاناً بلا سيادة” عليهم الإذعان للنظام الجديد والانصياع لإملاءاته.
هذا في حين أن أي خطة تسلب الشعب الفلسطيني حقوقه الطبيعية في تقرير المصير، لن تثمر سوى سلام هش لا يلبث أن يتداعى. ورغم أن وقف إطلاق النار وإرسال المساعدات الإنسانية خطوة لا يُستهان بها، إلا أن هذه الخطوات لا ترقى بعد إلى مستوى التقدم السياسي الحقيقي الذي ينشده أحرار العالم.
استكمال مشروع التطبيع
نهج ترامب نهجه بهدف استكمال المسار الذي دشّنه في فترة رئاسته الأولى، مساراً تضمن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بسيادة الكيان الصهيوني على الجولان السوري المحتل، ثم توقيع “اتفاقيات أبراهام” بين الكيان الصهيوني وعدد من الدول العربية.
وعليه، مثّل شرم الشيخ في حقيقته الخطوة الختامية لإتمام هذه السلسلة، خطوة ليتوج ترامب نفسه مهندساً لسلام الشرق الأوسط المزعوم، وفي الوقت نفسه إخراج مشروع تطبيع العلاقات العربية-العبرية من مأزقه الراهن، إذ كان إنهاء الحرب في غزة أحد شروط بعض الدول العربية للانضمام رسمياً إلى اتفاقيات أبراهام.
والآن مع إعلان وقف إطلاق النار في شرم الشيخ، يسعى البيت الأبيض لإيهام العالم أن طريق التطبيع الكامل للعرب مع تل أبيب قد تمهّد وخلا من العقبات، لكن في الحقيقة، سعى هذا المؤتمر، أكثر من تحقيق سلام حقيقي، إلى ترسيخ الكيان المصطنع ودمج الکيان الصهيوني في نسيج المنطقة كأمر واقع مفروض. وتشير تصريحات ترامب في الإشادة بجهود جاريد كوشنر، صهره، من أجل السلام في المنطقة، والذي كان المهندس الخفي لاتفاقيات أبراهام، إلى أنه مكلّف مرةً أخرى بإتمام مشروع التطبيع غير المكتمل وإضفاء الشرعية على الباطل.
من زاوية أخرى، يمكن تحليل هذه التطورات في إطار استراتيجية الولايات المتحدة بعيدة المدى لتقليص وجودها العسكري والمالي في غرب آسيا، سعت واشنطن في السنوات الأخيرة لنقل مركز ثقلها من غرب آسيا إلى شرقها واحتواء التنين الصيني، ونتيجةً لذلك، تحاول إزاحة عبء التكاليف الأمنية في مناطق أخرى من العالم عن كاهلها وإلقائه على كاهل حلفائها العرب، في شرم الشيخ، أوكل ترامب في حقيقة الأمر إدارة أزمة غزة وإعادة إعمارها إلى العواصم العربية، حتى تحافظ واشنطن على مصالحها الاستراتيجية دون أن تتكبد تكاليف مباشرة أو تتحمل تبعات مستقبلية.
“المقاومة” تحدد ميدان المعركة والدبلوماسية
رغم كل هذه المخططات المحبوكة، يظل مؤتمر شرم الشيخ ونتائجه بعيداً كل البعد عن مسار الحقائق الجيوسياسية المتجذرة في فلسطين والمنطقة بعد طوفان الأقصى وحرب غزة الضروس، من المؤكد أن إدارة ترامب لن تستطيع، بإجبار بعض المطبعين العرب على توقيع بيان سياسي على الورق، تغيير المعادلة المتحولة لتزايد الهزائم الاستراتيجية للكيان الصهيوني في مواجهة الفلسطينيين الصامدين.
رغم كل تبجحات ترامب وتفاخره في مؤتمر شرم الشيخ، أثبتت طريقة تبادل الأسرى واستعراض قوة حماس في مراسم تحرير الأسرى الفلسطينيين أن الجيش الصهيوني، رغم تفوقه التسليحي الساحق ودعم الغرب الشامل، لم يستطع تحقيق أهدافه المعلنة، بما في ذلك القضاء التام على حماس وتهجير الفلسطينيين واحتلال غزة بشكل دائم، استطاعت المقاومة الفلسطينية، خلافاً لتوقعات تل أبيب، أن تشلّ الآلة العسكرية الإسرائيلية بمزيج بارع من التكتيكات الفدائية، وحرب المدن، والهجمات الصاروخية التي أذهلت العالم.
كانت هذه الهزيمة باهظة التكاليف للولايات المتحدة وحلفائها، خاصةً في أوساط الرأي العام الغربي. أثارت صور دمار غزة المروعة، ومذابح المدنيين الأبرياء، وحصار الناس العزل، موجةً عارمةً من الاحتجاجات العالمية وكشفت القناع عن الوجه الحقيقي لنظام الاحتلال البغيض، لقد خرج الآلاف في العواصم الأوروبية والأمريكية إلى الشوارع مطالبين بوقف الإبادة الجماعية والاعتراف بدولة فلسطين المستقلة. في ظل هذه الظروف، لم يكن وقف إطلاق النار الذي يروج له ترامب نابعاً من نبل أو شفقة، بل لوقف النزيف السياسي لـ "إسرائيل" وتخفيف الضغط العالمي المتصاعد على واشنطن.
نجحت المقاومة الفلسطينية بصمودها الأسطوري، ليس فقط في قلب موازين القوى، بل أيضاً في إعادة القضية الفلسطينية إلى بؤرة الاهتمام العالمي بعد سنوات من التغييب المتعمد. إذا كانت قضية فلسطين قد أزيحت إلى هامش الاهتمام في العقد الماضي، فإن العامين الأخيرين أعاداها بقوة إلى صدارة الأجندة السياسية العالمية، وتشير موجة الاعترافات المتتالية بدولة فلسطين من قبل الدول، إلى تبدل جذري في المعادلة الدولية.
لقد أضحى جلياً الآن أكثر من أي وقت مضى أن محور المقاومة يضطلع بدور محوري في رسم ملامح مستقبل المنطقة، حال تعاظم قوة هذه الجبهة دون تحقيق أهداف تل أبيب الكاملة في غزة، ولن يسمح بتحويل مشروع أوسلو الثاني المتجسد في صورة شرم الشيخ إلى حقيقة واقعة.
سجّل ترامب، وإن بدا في الظاهر أنه صاحب مبادرة وقف إطلاق النار، استسلاماً لحقيقة لا مناص منها. كانت استمرارية الحرب تعني تفاقم الخسائر الصهيونية وتعميق الأزمة السياسية في تل أبيب. وأدرك ترامب هذا المأزق، وسعى عبر الدبلوماسية لتغطية الهزيمة العسكرية لحليفه، وتقديمها كانتصار في إطار “اتفاق سلام” مزعوم، لكن خلافاً لحسابات واشنطن، لن يمضي مسار تطبيع العلاقات العربية-الصهيونية بسلاسة بعد الآن.
لقد رسّخ المجتمع الدولي، خاصةً بعد جرائم غزة المروعة، صورةً للكيان المحتل كدولة عنصرية متعطشة للدماء، وباتت شعوب المنطقة العربية على يقين راسخ أن لا سلام دائم من دون عدالة شاملة.
وضعت موجة الصحوة الجديدة والتضامن المتنامي مع الشعب الفلسطيني، الحكومات المطبعة في مأزق عسير، لا يمكنهم الترحيب بالتطبيع بينما لم يعد اللاجئون بعد إلى ديارهم وما زال جدار الفصل العنصري شاهداً على الظلم، حتى بعض الحكومات العربية التي انساقت سابقاً وراء اتفاقيات أبراهام، أظهرت تراجعات ملحوظة في مواقفها الرسمية.
كشفت اتفاقيات شرم الشيخ، بدلاً من حل عقدة الأزمة، التناقضات الجوهرية لخطة السلام الأمريكية المزعومة، أظهر هذا المؤتمر بجلاء أنه من دون مشاركة فاعلة وحاسمة للشعب الفلسطيني صاحب الحق الأصيل، لن يصمد أي اتفاق أمام رياح التغيير، وتثبت التجربة المريرة لأوسلو والآن شرم الشيخ بوضوح ساطع، أن السلام المفروض بالقوة لا يجلب الأمن المنشود للصهاينة ولا يحقق الحقوق المشروعة للفلسطينيين.
عاد العالم الآن مرةً أخرى إلى مفترق طرق يتعين عليه فيه الاختيار بين “سلام عادل” يرد الحقوق لأصحابها، و"سلام مسرحي" يكرس الظلم ويعمق الجراح، أتاحت مقاومة الشعب الفلسطيني الباسل وصمود قوى جبهة المقاومة الفرصة السانحة لتغيير معادلة القوة في غرب آسيا، وما شهدته غزة لم يكن مجرد معركة عسكرية عابرة، بل مواجهة حضارية بين رؤيتين متناقضتين، واحدة قائمة على الاحتلال والقهر والغطرسة، والأخرى على العدالة والحرية وحق تقرير المصير.
في خاتمة المطاف، ربما اختُتم مؤتمر شرم الشيخ في ظاهره ببيان منمق براق، لكنه في جوهره كان فاتحة مرحلة جديدة من الصحوة والوعي العالمي تجاه القضية الفلسطينية العادلة، أثبت التاريخ مراراً وتكراراً أنه لا توجد قوة على وجه الأرض يمكنها إخماد جذوة إرادة شعبٍ يناضل من أجل حريته وكرامته، وكما تحوّل أوسلو مع مرور الزمن إلى وثيقة طواها النسيان، سيبقى شرم الشيخ أيضاً في ذاكرة الشعوب شاهداً على محاولة فاشلة أخرى لفرض سلام مشوه وجائر، لا يلبّي تطلعات أصحاب الحق الأصيل.