الوقت- في زمن تطفئ فيه القنابل أنفاس الأبرياء، وتطمس فيه ملامح الرحمة تحت ركام الحروب، يخرج من قلب غزة فعلٌ مختلف، فعل يذكر بأن الإنسانية لا تنطفئ حتى وسط الدمار، في الأيام الأخيرة، سمحت حركة حماس، وللمرة الأولى منذ بدء صراعها مع الاحتلال الإسرائيلي، لعدد من الأسرى الإسرائيليين بالتحدث هاتفياً مع عائلاتهم قبيل إطلاق سراحهم في إطار صفقة التبادل الجارية.
قد تبدو الخطوة بسيطة في ظاهرها، لكنها في جوهرها تحمل رسالة إنسانية عميقة: أن من يقاتل لا يفقد بالضرورة حسّه الأخلاقي، وأن من يقف في الخندق لا يعني أنه تخلى عن قيم الرحمة، هذه المبادرة لم تكن مجرّد إجراء بروتوكولي، بل كانت إعلانًا ضمنيًا بأن حماس، رغم الحرب، لا تزال تملك بوصلة إنسانية ترشدها في التعامل مع الأسير، حتى لو كان من الطرف الذي يقتل أبناءها ويدمر بيوتها.
اتصال واحد.. يهزّ جدار الصورة النمطية
في تلك اللحظة التي دوّى فيها صوت أحد الأسرى الإسرائيليين عبر الهاتف لأمه قائلاً: "سأعود قريبًا يا أمي"، كان العالم يُعيد النظر في الصورة التي رسمها الإعلام الغربي عن حماس لسنوات طويلة.
فالإعلام الإسرائيلي والغربي، منذ نشوء الحركة، عمل على ترسيخ صورة “المقاتل المقنّع”، “المتشدد”، “العدو اللدود للسلام”، دون أن يلتفت إلى البعد الإنساني الذي تراه الحركة جزءًا من عقيدتها ومشروعها المقاوم.
لكنّ السماح للأسرى بالاتصال بذويهم قبل الإفراج، في لحظةٍ يندر فيها أن تُسمع فيها لغة الرحمة، هو ما أعاد تسليط الضوء على هذا الوجه الإنساني، فالخطوة لم تأتِ من موقع الضعف أو الدعاية، بل من موقع القوة الأخلاقية التي تقول للعالم: “نحن نقاتل من أجل الحياة، لا من أجل القتل".
الإنسانية في صميم العقيدة
منذ تأسيسها، كانت حماس تُقدّم نفسها بوصفها حركة مقاومة تحمل مشروعًا وطنيًا وإيمانيًا في آن واحد، مشروعًا يرفض الاحتلال، لكنه لا يرفض الإنسان، فالمقاومة، في فلسفة الحركة، ليست نقيضًا للإنسانية، بل هي أداة لاستعادتها.
ولهذا، فإن التعامل مع الأسرى كان دائمًا يخضع لمعايير أخلاقية دقيقة، نابعة من تعاليم الإسلام التي شددت على حسن معاملة الأسرى واحترام آدميتهم، حتى في أوقات الحرب.
وفي حين تُسجَّل على الاحتلال الإسرائيلي آلاف الانتهاكات بحق الأسرى الفلسطينيين من التعذيب، والعزل، والحرمان من الزيارات، والاعتقال الإداري بلا محاكمة نجد أن حماس كانت تحرص على تقديم صورة معاكسة تمامًا: أسيرٌ يُعامل بكرامة، يُوفّر له المأكل والمأوى والعلاج، وتُصان حياته رغم كل ما يعانيه الشعب الفلسطيني من حصار وموت.
من “شاليط” إلى الاتصالات الأخيرة: سجلّ إنساني ثابت
ليست هذه المرة الأولى التي تُظهر فيها حماس وجهها الإنساني في التعامل مع الأسرى، ففي صفقة “جلعاد شاليط” عام 2011، والتي أفرجت فيها الحركة عن الجندي الإسرائيلي مقابل أكثر من ألف أسير فلسطيني، حرصت حماس على أن تخرج الصفقة في صورةٍ تحترم القوانين الدولية.
لم يُسجَّل خلال خمس سنوات احتجاز شاليط أيّ تجاوز أو تعذيب بحقه، رغم أن "إسرائيل" خلال تلك الفترة كانت تقتل المدنيين وتدمّر المنازل وتفرض حصارًا خانقًا على غزة، وعندما أفرجت عنه الحركة، أطلقت سراحه حيًّا، في مشهد حضره الإعلام العالمي وشهد على حسن معاملته.
اليوم، وبعد أكثر من عقد على تلك الصفقة، تتكرر الصورة ولكن بشكل أكثر وضوحًا عندما سمحت الحركة للأسرى الإسرائيليين بالتحدث مع عائلاتهم، الخطوة لم تكن جزءًا من “اتفاق مكتوب”، بل مبادرة من داخل الحركة نفسها، تُعبّر عن وعيها بأن الحرب لا تبرر التجرّد من الأخلاق.
الرحمة لا تُلغي المقاومة
في عالمٍ يرى كثيرون فيه أن “الإنسانية” ضعف، قد تبدو مبادرة حماس مثيرة للدهشة، لكن الحقيقة أن الرحمة في ثقافة المقاومة ليست تناقضًا مع القوة، بل هي دليل على سموّ الهدف.
إن السماح للأسير بالتواصل مع أسرته لا يعني التساهل، بل يعني أن المقاتل لا يتحول إلى جلّاد، وأن من يحمل البندقية لا يفقد إنسانيته، فالقضية الفلسطينية، في جوهرها، ليست صراعًا بين شعبين فحسب، بل بين منظومتين أخلاقيتين:
- منظومة تُشرعن القتل والتجويع والحصار.
- وأخرى تُقاتل لتصون الكرامة، وتحافظ على روح الإنسان.
بهذا المعنى، فإن الخطوة الأخيرة لحماس تمثل استمرارًا للنهج الأخلاقي الذي يميز مقاومتها منذ بدايتها: أن القتال في سبيل الحرية لا يمكن أن ينفصل عن احترام الحياة.
وجه حماس الذي لا يُعرض في نشرات الأخبار
في كثير من نشرات الأخبار الغربية، يظهر مقاتل حماس بزيٍّ عسكري ووجهٍ مقنّع وسلاحٍ على الكتف، لكن نادرًا ما تُعرض صورته الأخرى: المعلّم في المدرسة، الطبيب في المستشفى، الشاب الذي يُنقذ الجرحى بعد القصف، أو الذي يقدّم الماء لأسيرٍ عطشان.
هذه الصور، التي لا تراها الكاميرات عادة، هي التي تشكّل جوهر “الوجه الإنساني” للحركة، فحماس ليست كتلة صمّاء من المقاتلين، بل حركة مجتمعٍ بأكمله، تحمل في صفوفها الأطباء والمهندسين والمعلمين والنساء، وتعيش في بيئةٍ تُقدّس قيمة الإنسان.
ومن هنا يمكن فهم أن السماح للأسرى بالاتصال بعائلاتهم ليس “تنازلًا”، بل ترجمة لقيمٍ راسخة في ثقافة الشعب الفلسطيني الذي يرى في الإنسانية جوهرًا للمقاومة، لا نقيضًا لها.
الأسرى.. مرآة الأخلاق في زمن الحرب
لطالما كان تعامل الأطراف المتصارعة مع الأسرى اختبارًا أخلاقيًا حاسمًا، فمن يحترم أسيره، يُثبت أنه يقاتل من أجل مبدأ، لا من أجل الانتقام. ومن يُهين الأسير، يكشف عن أزمة أخلاقية عميقة مهما بلغت قوته العسكرية.
وحين نقارن بين ما تقوم به حماس وبين ما يفعله الكيان الإسرائيلي بالأسرى الفلسطينيين، تتضح الفوارق الجذرية. فبينما تمنح حماس أسراها فرصة الاتصال بعائلاتهم قبل الإفراج، يواصل الكيان الإسرائيلي حرمان آلاف الأسرى الفلسطينيين من رؤية أهلهم لسنوات طويلة، وتمنع الزيارات، وتعتقل القاصرين والنساء، وتستخدم العزل الانفرادي كأداة تعذيب نفسي وجسدي.
الفرق هنا ليس في الإمكانيات، بل في القيم. فحماس، رغم حصارها وفقر مواردها، تُصرّ على معاملة الأسرى وفق معيار الكرامة، لأن القضية بالنسبة لها ليست قضية انتقام، بل قضية تحرير وإنصاف وعدل.
الإنسانية التي كسرت الجدار الإعلامي
من اللافت أن الخطوة الأخيرة لحماس تلقّتها وسائل الإعلام العالمية بدهشة، فحتى بعض الصحف الغربية التي كانت تهاجم الحركة لسنوات، اضطرت إلى الإشارة إلى “طابع إنساني غير مسبوق” في تعاملها مع الأسرى.
هذه الخطوة أعادت إلى الواجهة سؤالًا قديمًا: لماذا يلتفّ الناس حول حماس رغم كل ما تواجهه من اتهامات وحصار؟
الجواب بسيط: لأنهم يرون فيها صدقًا إنسانيًا في الدفاع عن حقّهم، وليس مجرد رغبة في القتال.
العالم بدأ يدرك أن حماس ليست حركة تبحث عن الحرب لذاتها، بل عن العدالة والكرامة، وأن سلوكها، مهما اشتد الصراع، لا ينحدر إلى مستوى الجرائم التي يرتكبها الاحتلال بحق الفلسطينيين.
حماس بين العدالة والرحمة
من يقرأ سلوك حماس في إدارة ملف الأسرى يدرك أنها تمارس نوعًا من “العدالة الرحيمة”، فهي تطالب بالإفراج عن آلاف الأسرى الفلسطينيين الذين يعيشون ظروفًا قاسية في سجون الاحتلال، لكنها في المقابل تحافظ على حياة الأسرى الإسرائيليين لديها، وتؤكد دائمًا أنهم “ضيوف تحت الحراسة”، وليسوا “أعداءً يُنتقم منهم”.
هذه المفارقة الأخلاقية هي ما يمنحها تفوقًا رمزيًا أمام العالم: فهي تقاتل عدوًّا يحتجز الأطفال، لكنها لا تحتجز الأسرى لقتلهم أو إذلالهم
بل إن بعض الأسرى الإسرائيليين الذين أُفرج عنهم سابقًا تحدثوا بأنفسهم عن معاملة إنسانية تلقوها داخل غزة، رغم حالة الحرب والقصف.
ما فعلته حماس لم يكن خطوة سياسية فحسب، بل رسالة ضمير إلى العالم بأسره، ففي اللحظة التي يُقتل فيها الأطفال في غزة وتُدفن العائلات تحت الركام، ما زال هناك من يقول: “حتى في الحرب، هناك مساحة للرحمة".
هذه الرسالة تتجاوز حدود فلسطين؛ إنها تذكير بأن الإنسانية ليست شعارًا غربيًا يُستخدم حين يشاء الإعلام، بل قيمة عالمية يمكن أن تخرج من أحياء مدمرة، من تحت الأنقاض، من قلب غزة التي لم تعرف يومًا إلا الصمود.
بين وجه المقاتل ووجه الإنسان
لا شك أن حماس، كحركة مقاومة، تحمل سلاحًا وتقاتل عدوًّا شرسًا. لكنها أيضًا حركة تحمل همّ الإنسان الفلسطيني، وتُدرك أن معركتها ليست فقط عسكرية، بل أخلاقية أيضًا.
فالانتصار الحقيقي لا يكون بعدد الصواريخ أو الضربات، بل في الحفاظ على جوهر العدالة والرحمة حتى في أصعب الظروف.
وهذا ما تُظهره مبادرات كهذه: أن المقاومة الفلسطينية ليست مشروع تدمير، بل مشروع حياة؛ وأن من يملك الحق لا يحتاج إلى التنكّر لإنسانيته كي ينتصر.
حين تنتصر الأخلاق على الحرب
ما قامت به حماس بالسماح للأسرى الإسرائيليين بالتحدث مع عائلاتهم قبيل الإفراج عنهم، قد يبدو تفصيلًا صغيرًا في مسار حرب طويلة، لكنه في الحقيقة فعل رمزي عظيم يعيد التوازن إلى ضمير البشرية.
إنها خطوة تقول للعالم: “من بين الدمار يمكن أن يخرج ضوء، ومن قلب المقاومة يمكن أن تنبثق الرحمة”.
لقد قدّمت حماس للعالم درسًا جديدًا في الإنسانية: أن القوة ليست في القتل، بل في ضبط النفس، وأن النصر الحقيقي هو أن تبقى إنسانًا رغم كل ما يفعله بك العدو.
في زمنٍ تتساقط فيه القيم تحت ضغط المصالح، أثبتت حماس أن المقاومة يمكن أن تكون أخلاقًا قبل أن تكون سلاحًا.
ولعل هذا هو السبب الحقيقي الذي جعل الملايين حول العالم من شعوبٍ وأحرارٍ وحقوقيين يتعاطفون مع غزة، لا لأن حماس تملك الصواريخ أو الأنفاق، بل لأنها تملك ما هو أندر: ضميرًا إنسانيًا لا يُقهر.