الوقت- في واحدة من أكثر اللحظات السياسية والأمنية حساسية في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، شكّل تبادل الأسرى الأخير نقطة تحوّل بارزة في معادلة القوة بين المقاومة الفلسطينية و"إسرائيل"، هذا الحدث لم يكن مجرد عملية تبادل إنساني، بل كان استعراضاً لقدرة حماس الاستراتيجية والتنظيمية والسياسية، في مقابل عجزٍ واضح وفشلٍ استخباري إسرائيلي، لم يسبق له مثيل منذ عقود، فحين سلّمت المقاومة الأسرى الإسرائيليين بشروطها، كانت في الواقع تُعيد صياغة مفاهيم الردع والتفوق، وتُثبت أن من يمتلك أوراق الميدان هو من يُملي قواعد اللعبة، وليس من يملك التفوق العسكري فقط.
حماس ترسم مشهد القوة من تحت الركام
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، كانت الرواية الإسرائيلية تسعى لتكريس فكرة أن الجيش هو الأقوى وأن المقاومة في طريقها للانهيار، لكن واقع الميدان أثبت العكس تماماً، فبينما كانت "إسرائيل" تُدمّر المدن والبنية التحتية في القطاع، كانت حماس تُدير حربها بذكاء عالٍ، تُخطط بصمت، وتتحرك بدقة، وتحافظ على أوراقها الأكثر حساسية — الأسرى الإسرائيليون.
حين جاءت لحظة التبادل، أدرك الجميع أن حماس لم تكن ضعيفة ولا محاصَرة كما حاول الإعلام الإسرائيلي أن يصوّر، بل كانت تتحكم في إيقاع الأزمة من موقع القوة، فقد سلّمت الأسرى الإسرائيليين في إطار تفاوضي منضبط، وبشروط مدروسة، لا تُظهرها كجهة مستسلمة، بل كمفاوضٍ يمتلك زمام المبادرة، وفي المقابل، ظهر الارتباك الإسرائيلي واضحاً، إذ لم تستطع تل أبيب عبر قوتها العسكرية والاستخبارية استعادة أسراها، بل اضطرت للرضوخ لشروط المقاومة.
القبضة الحديدية للمقاومة أمام عجز الاستخبارات الإسرائيلية
تعتمد "إسرائيل" منذ تأسيسها على تفوقها الاستخباري كأحد أعمدة قوتها الردعية، لكن تبادل الأسرى الأخير كشف أن هذا التفوق لم يعد قائماً كما كان. فبعد شهور من العمليات العسكرية، والبحث الميداني المكثف، والتقنيات المتطورة، فشلت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في تحديد مواقع الأسرى أو تحريرهم، وهو ما شكل صدمة للقيادة السياسية والعسكرية.
في المقابل، تمكنت حماس من الحفاظ على الأسرى داخل بيئة محاصرة وتحت القصف المستمر، ما يعكس مستوى غير مسبوق من الانضباط الأمني والقدرة التنظيمية. وهذا بحد ذاته إنجاز استراتيجي يوازي الانتصارات الميدانية، لأن "إسرائيل" التي تدّعي أنها تعرف كل شبر في غزة، وجدت نفسها عمياء في مواجهة وحدات المقاومة. هذا التوازن الجديد في المعلومة والاستخبار، أسقط أحد أهم أعمدة الهيمنة الإسرائيلية.
صفعة سياسية ومعنوية لـ"إسرائيل"
لم يكن تبادل الأسرى مجرد خسارة ميدانية لـ"إسرائيل"، بل كان هزيمة سياسية ومعنوية. فقد تزعزعت الثقة داخل المجتمع الإسرائيلي تجاه حكومته وجيشه، بعدما أدرك المواطن الإسرائيلي أن دولته غير قادرة على حماية جنودها ولا استردادهم، هذا الإحساس بالهشاشة عمّ الشارع الإسرائيلي وأصاب المؤسسة الحاكمة بحالة من الارتباك الداخلي، تُرجم بخلافات حادة بين أركان الحكومة والقيادة العسكرية حول كيفية التعامل مع الملف.
أما في المقابل، فقد عزّزت حماس حضورها الإقليمي والشعبي. فالمشهد الذي ظهرت فيه وهي تسلّم الأسرى بإرادتها، لم يكن مجرد استعراض إعلامي، بل رسالة موجهة إلى العالم: نحن من نملك القرار، ونحن من نُحدد اللحظة، وبذلك، نجحت الحركة في تحويل حدث تبادل الأسرى إلى رمز سياسي جديد يعيد تعريف مفهوم القوة في الصراع مع الاحتلال.
المقاومة تفرض معادلة الردع الجديدة
يُمكن القول إن تبادل الأسرى أعاد صياغة قواعد الردع بين الجانبين. فبعد أن كانت إسرائيل تفرض شروطها في الصفقات السابقة، أصبحت اليوم حماس هي التي تحدد الإطار والشروط، لم يعد الاحتلال قادراً على استخدام ورقة القوة العسكرية لإملاء ما يريد، لأن المقاومة أثبتت أن لديها ما يُوجع "إسرائيل" أكثر من أي سلاح تقليدي: الإنسان الأسير.
هذه الورقة الإنسانية تحوّلت إلى سلاح سياسي ذكي، تُديره حماس بعناية وتوقيت دقيق. فقد أدركت أن المجتمع الإسرائيلي لا يحتمل رؤية جنوده في الأسر، وأن الضغط الشعبي هناك أقوى من أي تهديد عسكري، ومن هنا، استثمرت الحركة هذا العامل بذكاء، لتثبت أن من يصمد ويمتلك الصبر والإرادة يمكنه أن ينتصر على من يملك القوة الغاشمة.
رسالة القوة من غزة إلى العالم
ما فعلته حماس في هذه الصفقة لم يكن مجرد تحدٍ لـ"إسرائيل"، بل إعادة تعريف لمعنى القوة في المنطقة. فهي قالت بصمت الفعل، لا بصخب الخطاب، إن القوة ليست في عدد الطائرات ولا في دقة الصواريخ، بل في القدرة على فرض الإرادة، وحماية الأسرار، والتمسك بالثوابت رغم الحصار والتدمير.
لقد أدرك العالم أن "إسرائيل"، رغم تفوقها العسكري، ليست قادرة على كسر إرادة المقاومة، وأن حماس بقدراتها المحدودة استطاعت أن تُحدث تغييراً في المعادلة الإقليمية، هذه الحقيقة الجديدة تُحرج "إسرائيل" أمام حلفائها وتُعيد رسم موازين النفوذ في الشرق الأوسط، حيث باتت المقاومة الفلسطينية طرفاً لا يمكن تجاهله في أي معادلة سياسية أو أمنية مقبلة.
في الختام، عملية تبادل الأسرى الأخيرة لم تكن مجرد حدث إنساني، بل نقطة تحول استراتيجية في تاريخ الصراع، لقد أثبتت حماس أن القوة ليست بالعتاد، بل بالقدرة على الصمود، والتخطيط، والتحكم في مسار المعركة، في المقابل، كشفت العملية هشاشة المؤسسة الإسرائيلية وضعفها أمام خصم يعرف كيف يُقاتل بعقيدة لا تُقهر بالإرهاب العسكري.
بهذا التبادل، انتصرت إرادة المقاومة، واهتزّت صورة "إسرائيل" كقوة لا تُهزم، فغزة، رغم الجراح والدمار، استطاعت أن تُعيد تعريف مفهوم النصر، وتُثبت أن من يملك الإرادة والعقيدة يمكنه أن يُهزم جيشاً مدججاً بالسلاح، وأن الكرامة أقوى من القوة، وأن الميدان لا يحسمه السلاح فقط، بل الثبات والإيمان بالحق.