الوقت – قبيل انقضاء أسبوع، أثار إعلان دونالد ترامب، سيد البيت الأبيض، عن اتفاق وقف إطلاق النار في حرب غزة، دوامةً من الحيرة والارتباك في أروقة تل أبيب، إن مبادرة ترامب بإعلان الهدنة قبل صدور البيان الرسمي من جانب الكيان الصهيوني، يكشف عن عظم الضغط الأمريكي على بنيامين نتنياهو، رأس الحكومة الصهيونية، الذي بات اليوم مطارداً من محكمة العدل الدولية بتهم اقتراف فظائع الحرب في قطاع غزة.
ولما كانت نيران الحرب قد خمدت دون بلوغ المرامي التي أعلنتها تل أبيب بصلف (من تقويض أركان حماس وتخليص جميع الأسرى الصهاينة) - إذ لقي عدد من الأسرى الإسرائيليين حتفهم جراء القصف والحصار المطبق على غزة - فقد خيّم ظلام اليأس والإحباط على المحافل السياسية والعسكرية الإسرائيلية.
في حقيقة الأمر، شنّت تل أبيب أعتى وأطول حملة في سجلها الدموي على غزة، بيد أنها وجدت نفسها في أوهن حالاتها سياسياً على الساحة الدولية، ووقعت في شرك العزلة الدبلوماسية.
يتفق المحللون على أن نتنياهو قد أخفق إخفاقاً ذريعاً في تحقيق غايته الاستراتيجية المتمثلة في استئصال شأفة حماس، أو تقويض قدراتها العسكرية والسياسية، يتشبث جيش الاحتلال اليوم بمكاسب تكتيكية هزيلة كتدمير جزء يسير من الأنفاق وبعض مستودعات السلاح التابعة لحماس، لكنه عجز عجزاً مبيناً عن تفكيك البنية التنظيمية أو الحاضنة الشعبية لهذه الحركة المجاهدة.
وفق المراقبين، انبثقت حماس من رحم الحرب أشدّ عوداً وأقوى شكيمةً، واستطاعت بعد اجتيازها محنة الحصار وعاصفة القصف، أن تتبوأ مكانةً راسخةً كممثل شرعي للشعب الفلسطيني وللمقاومة.
في المقابل، مُنيت تل أبيب بهزيمة ساحقة في معترك الرأي العالمي، وشهدت تحولاً جذرياً في مواقف الشعوب، حيث تصاعدت سهام النقد الأوروبية وتنامى التعاطف الجماهيري مع قضية الفلسطينيين بصورة غير مسبوقة على الصعيد الدولي.
وعلى الرغم من سريان الهدنة في غزة حالياً، لا تزال مواكب التضامن مع فلسطين تجوب أرجاء المعمورة، وفي اليوم السابق لتحرير الأسرى الإسرائيليين في غزة، شهدت سبع وعشرون مدينة أسترالية تظاهرات متزامنة نصرةً لفلسطين وأهل غزة المكلومين.
مشهد تبادل الأسرى
بمقتضى اتفاق شرم الشيخ، ستشرع "إسرائيل" في فك أغلال نحو ألفي أسير فلسطيني بعد استلام عشرين أسيراً حياً من قبضة حماس، ووفق ما أفصح عنه الناطق باسم مکتب بنيامين نتنياهو، تترقب تل أبيب تسليم جميع الأسرى العشرين الأحياء إلى الصليب الأحمر “يوم الاثنين”.
وفي فجر ذلك اليوم، أعلنت الهيئة الدولية أنها تسلمت سبعة أسرى إسرائيليين أحياء وأحالتهم إلى جيش الاحتلال، كما أكدت إطلاق كتائب القسام سراح ثلاثة عشر أسيراً آخرين في المرحلة الثانية من عملية تحرير الأسرى الإسرائيليين قبل أن تؤذن الشمس بالزوال، وبهذا، أوفت كتائب القسام في باكورة أيام التبادل بجميع عهودها المتصلة بتحرير عشرين أسيراً إسرائيلياً.
كما حطّ دونالد ترامب رحاله في تل أبيب صبيحة الاثنين، وبعدها هيأ نفسه للرحيل إلى مصر للمشاركة في مراسم إعلان وقف إطلاق النار في حرب غزة المستعرة.
جيش أضناه القتال وشعب أثقلته الجراح
بالتزامن مع تبادل الأسرى، شرعت آلة الحرب الإسرائيلية في تنفيذ عملية “العودة إلى الديار”، وبعد عامين من الاحتراب، يبدو أن جيش الاحتلال الذي أنهكته نار المعارك يتلمس طريق الخروج من مستنقع غزة الذي غرق فيه، ويقر “الفريق أول إيال زمير”، قائد أركان جيش الاحتلال، بفداحة الضغط العسكري في معارك غزة، مؤكداً أنه رغم الانسحاب من القطاع، لا يزال يرصد كل حركة وسكنة بعينٍ لا تغفل.
الضغط النفسي على الصهاينة بادٍ للعيان كالشمس في كبد السماء بالتزامن مع تبادل الأسرى، فقد صرح “إسحاق هرتزوغ”، رأس الكيان الصهيوني، قبيل وصول الأسرى وأثناء تفقده للمشافي التي ستستقبلهم، أن الجميع على أهبة الاستعداد لمداواة ليس فقط جراح الأجساد، بل أيضاً كلوم النفوس التي أثخنتها هذه الحرب الضروس.
بيد أن الأوضاع لا تزال متقلبةً في الأراضي المحتلة. فعودة رفات الأسرى الذين قضوا نحبهم - المتوقع أن تتم في غضون اليومين المقبلين - قد ألقت بسدول الحزن على الصهاينة، وقد أعلنت حماس أنها تجهل مصير بقايا جثامين بعض الأسرى، ما قد يفضي إلى تأخير تسليم الرفات إلى ذوي القتلى من الإسرائيليين.
هذه الأجواء المفعمة بالذهول والأسى في "إسرائيل" المتزامنة مع استرداد الأسرى، ليست ما كان يتوقعه الصهاينة في مخيلتهم، وفي المقابل، يحتفي الفلسطينيون في غزة بوقف إطلاق النار، رغم أن نيران الحرب التهمت بيوتهم وأحالت ديارهم إلى أطلال، إذ ينتظرون وفق بنود الاتفاق تدفق قوافل الإغاثة العاجلة إلى ربوع القطاع المنكوب.
هدنة على شفا الانهيار
مسار وقف إطلاق النار في غزة محفوف بالمخاطر وتتهدده الأخطار، محور الاهتمام الراهن للهدنة ينصبّ على تبادل الأسرى الفلسطينيين والإسرائيليين، غير أن التحدي الأعظم يكمن في معالجة جذور الصراع المستعر وتوفير الأمان للإسرائيليين، وهو ضمان ما زال بعيد المنال بالنسبة للصهاينة، إذ لا تزال حركة حماس المقاومة تبسط نفوذها على قطاع غزة بعد عامين من اشتعال أوار الحرب.
في حقيقة الأمر، يبدو جلياً أنه ما لم تُحسم القضية الفلسطينية حسماً جذرياً وما لم يتمكن الشعب الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة بمحض إرادته، ستظل "إسرائيل" تكابد أياماً عصيبةً في مواجهة فصائل المقاومة، ولن ينقشع كابوس الصهاينة حتى بعد أن تضع الحرب أوزارها.