الوقت – في الأسابيع المنصرمة، صدحت أبواق وزارة الحرب الصهيونية بأنباء نجاح اختبارات منظومتها الليزرية المعروفة بـ"الشعاع الحديدي"؛ منظومة يزعم خبراء الحرب الصهاينة أنها ستقلب موازين الصراع في المنطقة وتنسف معادلاته الراسخة.
تدّعي سلطات تل أبيب أن هذه المنظومة، بتكلفة تضاءلت أمام نظيراتها من الصواريخ الاعتراضية المألوفة، تمتلك قدرةً فائقةً على اقتناص شتى صنوف التهديدات الجوية، ويُرتقب أن تدخل ميدان العمليات العسكرية مع انقضاء العام الميلادي الجاري.
بيد أن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح هو: ما الذي دفع أقطاب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، في أعقاب حرب الأيام الاثني عشر والضربات الإيرانية الماحقة، إلى الكشف المفاجئ عن منظومةٍ طالما تبجّحوا بها مراراً وتكراراً؟ تكمن الإجابة في الصواعق الصاروخية الإيرانية التي انقضت على هامات الصهاينة، وفي إخفاق المساعدات الدفاعية الأمريكية وسائر حلفاء الكيان من الغربيين.
في ربيع عام 2024، تجرع الكيان الصهيوني للمرة الأولى علقم الهجوم الصاروخي الإيراني المباشر، ففي عملية “الوعد الصادق 1”، أمطرت إيران سماء الأراضي المحتلة بوابل يزيد على ثلاثمئة مقذوف ما بين طائرات مسيرة انتحارية وصواريخ كروز وباليستية استهدفت مفاصل الكيان العسكرية الحساسة.
هذا الهجوم، الذي جاء انتقاماً لقصف القنصلية الإيرانية في دمشق، لم يخترق الحدود الجغرافية فحسب، بل اجتاح أسوار الدفاع الصهيوني المنيعة، فأنظمة الحماية المتطورة كـ"القبة الحديدية" و"السهم" و"مقلاع داوود"، رغم الإسناد الأمريكي السخي وحشود الحلفاء، باءت بالعجز عن صدّ سيل المقذوفات المتدفق.
ومع أن الكيان ادّعى اعتراض تسعين بالمئة من الهجمات، إلا أن هذه المزاعم كانت أقرب إلى الهذيان منها إلى الحقيقة؛ فمشاهد إصابات الصواريخ والمسيّرات الإيرانية، نسفت أكذوبة الصهاينة من أساسها، كانت تلك الهزيمة بمثابة صاعقة أيقظت تل أبيب من غفلتها: درعها الصاروخية الباهظة الثمن أضحت أوهى من بيت العنكبوت أمام طوفان الصواريخ الإيرانية وسرعتها الفائقة.
برهنت إيران، متكئةً على تفوقها العددي والنوعي الصاروخي – بترسانة تربو على ألفي صاروخ باليستي متوسط وبعيد المدى – على قدرتها الفائقة على إغراق الدفاعات الصهيونية وإلحاق ضربات تصدع أركان الكيان.
لكن هذا الضعف متجذر في تجارب الكيان المريرة السابقة، فقد عمّقت هجمات إيران في خريف 2024، بإطلاق قرابة مئتي صاروخ باليستي على موجتين متتاليتين، هذا الوهن المستشري. بلغت تلك الضربات من القوة والشدة حداً أعجز الكيان الصهيوني حتى عن التشدّق بادعاء اعتراض الهجمات الصاروخية الإيرانية، أثبتت هذه الهجمات، التي جاءت رداً على اغتيال قادة حماس وحزب الله، أن الصواريخ الباليستية الإيرانية قادرة على اختراق جدران الدفاع الصهيونية المتعددة.
بلغت ذروة هذه المعضلة في الحرب المفروضة الأخيرة، ففي الحرب التي استعرت اثني عشر يوماً مع إيران في يونيو 2025، والتي افتتحها الكيان بهجمات غادرة على المنشآت النووية والصاروخية الإيرانية، تهاوت الدفاعات الصهيونية كأوراق الخريف أمام الردود الإيرانية الساحقة.
أطلقت إيران انتقاماً مئات الصواريخ الباليستية وما يربو على ألف طائرة مسيرة في موجات متلاحقة؛ صواريخ عجزت منظومات الدفاع الصهيونية، حتى بمؤازرة باتريوت وثاد الأمريكية، عن التصدي لها.
ألحقت هذه الهجمات خسائر فادحة بالقواعد الجوية والتجمعات السكانية والمنشآت الاقتصادية – بما في ذلك إصابة مباشرة لمطار بن غوريون ومعامل النفط في حيفا – وخلّفت ما لا يقل عن ثمانية وعشرين قتيلاً وآلاف الجرحى.
الكيان الصهيوني، الذي راهن على تحييد التفوق الصاروخي الإيراني عبر هجوم استباقي خاطف، اضطر إلى استجداء العون العاجل من أمريكا، وفي نهاية المطاف، رضخ لوقف إطلاق النار بتدخل واشنطن وهجمات مباشرة على إيران.
برهنت هذه الحرب التي أطلق عليها دونالد ترامب “حرب الأيام الاثني عشر”، أن الدرع الصاروخية الصهيونية هشة كالزجاج أمام الحجم الهائل ودقة الصواريخ الإيرانية كـ"فتاح" و"خرمشهر"، التي تتجاوز سرعتها خمسة أضعاف سرعة الصوت.
إيران، بترسانتها الصاروخية الضخمة (الأعظم في غرب آسيا) وقدرتها على إغراق دفاعات العدو، لم تضمن بقاءها فحسب، بل وجّهت ضربةً استراتيجيةً أجبرت الكيان على مراجعة حساباته عاجلاً غير آجل. هذه التجربة المريرة أرغمت الكيان الصهيوني على إعادة النظر جذرياً في استراتيجيته الدفاعية المتهاوية.
لقد رسّخت إيران تفوقها الاستراتيجي بإنتاجها الوفير للصواريخ الدقيقة والزهيدة الثمن، ففي حين يستنزف كل اعتراض صهيوني ملايين الدولارات، لا يتجاوز ثمن الصاروخ الإيراني الواحد بضعة آلاف من الدولارات، هذا الاختلال الصارخ دفع الكيان نحو التشبث بقشة التقنيات الجديدة – ولا سيما أنظمة الدفاع الليزرية التي تعد بـ “دفاع لا محدود وزهيد التكلفة”.
في هذا السياق المضطرب، قدّم الكيان الصهيوني مشروع “آيرون بيم” (الشعاع الحديدي) كطوق نجاة أخير، هذا النظام الليزري، الذي طوّرته شركة رافائيل، يُفترض أنه سيحطم الصواريخ والقذائف والمسيرات قصيرة المدى باستخدام ليزر ليفي فائق القوة وبتكلفة زهيدة تكاد لا تُذكر.
لكن الإعلانات المتكررة والمؤجلة عن هذا النظام، تبدو أقرب إلى مسرحية دعائية هزلية منها إلى إنجاز حقيقي. كُشف الستار عن هذه المنظومة للمرة الأولى في معرض سنغافورة الجوي عام 2014، لكنها حتى يومنا هذا – خريف 2025 – لم تبصر نور التشغيل الكامل.
في عام 2022، أطلقت وزارة الحرب الصهيونية وعداً بأن المنظومة ستغدو عملياتيةً مع مطلع 2024، لكن هذا الوعد تبخّر كالسراب، ثم في مارس 2024، زعمت شركة رافائيل أن المنظومة ستكون جاهزةً للعمل بحلول نهاية 2025. وفي الآونة الأخيرة، تحديداً في سبتمبر 2025، عقب الاختبارات النهائية في جنوب فلسطين المحتلة، كشفت وزارة الحرب الصهيونية أن “آيرون بيم” سيُسلم للجيش قبل انصرام العام الجاري، وأن باكورة استخدامه الحربي شهدها أكتوبر 2024 (في حرب غزة) – رغم أن تلك كانت نسخة “منقوصة” وليست النظام المتكامل.
هذه الإعلانات المتعاقبة، دون تحديد موعد دقيق للتشغيل، تؤجّج نار الشكوك: هل أنظمة الدفاع الليزرية هذه جاهزة حقاً، أم إنها محض سراب يلوح في أفق اليأس الصهيوني لتعويض نقاط الضعف المستفحلة؟ حتى لو دخل “آيرون بيم” حيز العمل، تظل الأسئلة الجوهرية تؤرّق وسائل الإعلام العبرية: هل يستطيع الصمود أمام التفوق الصاروخي الإيراني؟ وهل الوعود المعسولة بشأن فاعلية هذه المنظومة الدفاعية تماثل تلك التي قُدمت سابقاً بشأن أنظمة مقلاع داوود والسهم التي تحطمت على صخرة الواقع؟
أشار خبراء الأسلحة إلى جملة من المثالب والعيوب التي تعتري هذه المنظومة، نذكر منها:
• احتياج كل إطلاق (خاصةً على مسافات شاسعة) إلى قدر هائل من الطاقة، ما يقيّد بشدة قدرة البطاريات الراهنة، لا سيما للأسلحة المحمولة.
• تدني الفاعلية عند الإطلاق في أجواء ضبابية، حيث تتبدد أشعة الليزر وتتشتت في الفضاء.
• توليد أشعة الليزر لحرارة متراكمة تستدعي نظام تبريد متطور.
• استمرار أشعة الليزر المنطلقة لفترات تكاد تكون غير محدودة، ما يضاعف مخاطر إصابة القوات الصديقة أو المنشآت الواقعة خلف الهدف، ناهيك عن احتمالية اشتعال الغطاء النباتي، وتدمير الأقمار الصناعية.
• تشكيل الأسلحة الليزرية المثبتة على السفن، خطراً داهماً على البحارة جراء انعكاس الأشعة من صفحة البحر.
• اقتصار الإطلاق على خط مستقيم دون انعطاف أو التفاف.
يرى الخبراء أن “آيرون بيم” ما هو إلا متمم لـ “القبة الحديدية”، وليس بديلاً عنها؛ وفي مواجهة الهجمات الإيرانية الكاسحة، ستعجز هذه المنظومة أيضاً عن ردّ الطوفان، أما إيران، فقد حافظت على تفوقها الاستراتيجي الهجومي بمخزونها الصاروخي الهائل وقدرتها المتجددة على إنتاج صواريخ متطورة، ووضعت الكيان الصهيوني في مأزق لا فكاك منه.
في خاتمة المطاف، يتجلى “آيرون بيم” رمزاً ليأس الكيان الصهيوني المستفحل: تقنية يتكرر الإعلان عنها بتأخيرات متلاحقة، لكنها تعجز عن ترميم الصدع الهيكلي في درعه الصاروخية أمام بأس القوة الصاروخية الإيرانية. كشفت تجارب المعارك الأخيرة، من الوعد الصادق الأول إلى حرب الأيام الاثني عشر، أن تل أبيب تقهقرت ليس فقط في ميدان الدفاع، بل في معادلة توازن الرعب الإقليمي أيضاً، والمستقبل، بالاستناد إلى تفوق إيران المتعاظم، ينذر بدروس أشدّ قسوةً وأعمق أثراً للمحتلين الصهاينة.