الوقت- في أول جمعة بعد وقف إطلاق النار، اجتمع أهل غزة، بملابسهم البسيطة وقلوبهم المثقلة بسنوات النار والدمار، في المساجد التي ما زالت مهدّمة الأطراف أو في الساحات التي كانت بالأمس ميادين للدم، لم تكن صلاة جمعة عادية، بل كانت أشبه بإعلان حياة، وإثبات أن هذا الشعب الذي أرادت آلة الاحتلال أن تمحو وجوده، ما زال قائماً، راسخاً، متعبداً لله، مستسلماً لقضائه، لكنه غير منكسِر أمام جلاده.
منذ اللحظة الأولى لبدء العدوان الإسرائيلي قبل نحو عامين، كان واضحاً أن هذه الحرب لم تكن حرباً عسكرية فقط، بل حرباً على الروح والعقيدة والإرادة. أرادت إسرائيل أن تكسر الإيمان الذي يشكّل الركيزة الأساسية لهوية الشعب الفلسطيني، وأن تُخمد جذوة الصبر التي يستمدها الغزيون من يقينهم بالله وعدالة قضيتهم. لكنها فشلت، فها هم يعودون إلى المساجد، لا ليحكوا عن الهزيمة، بل ليجسدوا معنى النصر الحقيقي في العقيدة الإسلامية: نصر الصابرين والثابتين.
الجمعة الأولى بعد النار: صلاة الحياة على أنقاض الموت
في مختلف مناطق غزة، من رفح إلى بيت حانون، ارتفعت أصوات الأذان التي كانت قد خمدت طويلاً تحت القصف والحصار، أُقيمت الصلاة في المساجد المدمّرة، وأحياناً على الركام نفسه، كأن الغزيين أرادوا أن يقولوا للعالم: "حتى لو دمرتم حجارة المسجد، فلن تدمروا من يسجدون فيه".
في خطبة الجمعة الأولى بعد وقف النار، ركّز الأئمة على معنى الصبر والابتلاء في الإسلام، واستشهدوا بآيات من القرآن الكريم تؤكد أن النصر ليس بالعدة والعتاد فقط، بل بالإيمان والثبات:
"كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ" (البقرة: 249).
الجموع التي ملأت المساجد والساحات لم تكن فقط تمارس شعيرة دينية، بل كانت تُعلن انتصاراً روحياً على آلة الإبادة، فكل من حضر تلك الصلاة حمل في وجهه رسالة للعالم: أن العقيدة التي حاول الاحتلال خنقها، كانت هي الوقود الذي حفظ الوعي، وثبّت الأقدام، وجعل الموت نفسه يتحوّل إلى ولادة جديدة للحياة.
العقيدة كمنظومة صمود
حين نحلّل كيف صمد الفلسطينيون في غزة لعامين كاملين تحت حصار خانق وقصف لا يهدأ، لا يمكننا أن نفسّر ذلك فقط بعوامل مادية أو سياسية، فالقوة التي أبقت الناس متماسكين، تدفن أبناءهم بأيديهم، وتستيقظ في اليوم التالي لتبحث عن لقمة العيش أو تُعيد بناء بيتها، هي قوة الإيمان.
العقيدة الإسلامية في غزة ليست مجرد طقوس أو شعارات، بل هي نظام حياة متكامل، هذه العقيدة تجعل من الموت في سبيل الحق حياة، ومن الصبر عبادة، ومن المقاومة طريقاً للجنة، ولهذا حين يُستشهد طفل أو امرأة أو مقاتل، لا يُنظر إلى ذلك على أنه خسارة فادحة بقدر ما يُعد امتداداً لمسيرة العطاء التي لا تنقطع.
قال أحد أئمة غزة في خطبة الجمعة:
"لقد أرادوا لنا أن نُباد، فإذا بنا نزداد إيماناً، أرادوا أن يدفنونا تحت الركام، فإذا بنا نخرج منه كما يخرج المؤمن من ظلمات الفتن إلى نور اليقين."
هذا البعد العقائدي هو ما جعل الشعب الفلسطيني – رغم الفقر والجوع والموت – لا يرى نفسه مهزوماً. فبحسب فهمه للإيمان، هو منتصر في كل حال:
منتصر حين يستشهد لأنه يلقى الله صادقاً.
منتصر حين يقاوم لأنه يؤدي واجبه الديني والوطني.
منتصر حين يتشبث بأرضه لأنه يحافظ على الأمانة التي أوصاه بها التاريخ والدين.
من تحت الركام يولد الإيمان من جديد
خلال العامين الماضيين، شهد العالم صوراً مؤلمة من غزة: أطفال يموتون جوعاً، مستشفيات تُقصف، نساء يبحثن عن الماء في أنقاض البيوت، ومقابر تمتلئ بسرعة تفوق قدرة الناس على الحزن، ومع ذلك، لم تُسجّل لحظة واحدة تخلى فيها الغزيون عن صلاتهم أو عن قولهم “الحمد لله".
الروح الدينية في غزة لم تكن حالة طارئة، بل جزءاً أصيلاً من هوية المجتمع، فالإيمان هنا ليس ترفاً نفسياً، بل هو وسيلة للبقاء، حين يفقد الإنسان كل شيء، لا يبقى له إلا الله، وهذا ما أدركه أهل غزة بعمق، في لحظات القصف، كانت التكبيرات تخرج من البيوت، وفي أوقات الجوع كانت الأمهات يرددن "الله كريم"، إنها عقيدة تُعيد ترتيب الأولويات وتربط المعاناة بالمعنى، وتحوّل الألم إلى طريق للكرامة.
منبر الجمعة: صوت الصمود في وجه العالم الصامت
خطبة الجمعة في غزة بعد وقف النار لم تكن موجهة فقط لأهل القطاع، بل كانت رسالة إلى الأمة الإسلامية والعالم أجمع، قال أحد الخطباء:
"لقد خذلنا العالم، لكن الله لم يخذلنا، لقد صمتت المؤسسات الدولية، لكننا نسمع وعد الله: إن تنصروا الله ينصركم."
في تلك اللحظة، بدت العقيدة كأنها البديل الوحيد عن العدالة الغائبة، فبينما خذلتهم الأنظمة، وصمتت العواصم، ظلّ الإيمان هو النصير الأخير، لم تكن خطب الجمعة تتحدث عن انتصار عسكري، بل عن انتصار الوعي والثبات والإيمان بالحق.
انتصار العقيدة على منطق القوة
من الناحية السياسية والعسكرية، قد يحاول البعض تصوير ما جرى في غزة على أنه “توازن ضعف” أو “نهاية جولة”، لكن في المعنى الأعمق، هو انتصار العقيدة على منطق القوة، فـ"إسرائيل" التي استخدمت أضخم آلة حرب في تاريخها الحديث، لم تستطع كسر إرادة الفلسطينيين، بينما الفلسطيني الذي لا يملك سوى إيمانه، استطاع أن يجعل من العقيدة سلاحاً لا يُقهر.
لقد فشلت كل وسائل الضغط: التجويع، الحصار، التدمير، العزلة، وفشلت معها آلة الدعاية الإسرائيلية التي أرادت أن تُشيطن المقاومة وتكسر ثقة الناس بعدالة قضيتهم، لأن العقيدة الإسلامية ترى أن المعركة ليست فقط مع جيش محتل، بل مع الظلم نفسه، وبالتالي، كل مقاومة هي عبادة، وكل صمود هو نصر.
ما بعد الجمعة الأولى: مرحلة الترميم الروحي
بعد وقف إطلاق النار، تبدو غزة مقبلة على مرحلة جديدة، لا تقل أهمية عن زمن الحرب. إنها مرحلة إعادة بناء الروح قبل الحجر. فالمساجد التي امتلأت بالمصلين في الجمعة الأولى بعد النار، ستكون اليوم مدارس لإحياء الوعي والإيمان. والأئمة الذين تحدثوا عن الصبر والجهاد، سيتحدثون الآن عن الإعمار، والتربية، والتضامن.
لكن في عمق هذا المشهد، يبقى الثابت أن العقيدة كانت ولا تزال العمود الفقري لهذا الشعب، فحين تفقد الأمم عقيدتها، تفقد قدرتها على البقاء، وغزة اليوم، رغم الخراب، ما زالت حية لأنها تحمل إيماناً لا يُقهر.
نصر الإيمان الذي لا يُقاس بالخرائط
قد ينظر البعض إلى غزة فيراها مدمّرة، متهالكة، يلفها الحزن من كل جانب، لكن المؤمن ينظر إليها بعين أخرى، إنها مدينةٌ امتحنها الله فثبتت، وأراد لها الأعداء الموت فأحياها الله بالإيمان.
في العقيدة الإسلامية، النصر لا يُقاس بعدد الأحياء أو بالأرض المحررة، بل بصدق النية وثبات المبدأ، ومن هذا المنظور، فإن غزة لم تُهزم يوماً، لقد انتصرت وهي تصمد، وانتصر أهلها وهم يسجدون لله فوق الركام، وانتصروا حين خرجوا في الجمعة الأولى بعد النار ليقولوا للعالم:"لم تهزمنا طائراتكم، لأننا نحيا بما لا تملكون: الإيمان".
لقد أثبتت غزة أن الإبادة لا تستطيع أن تمحو عقيدة، وأن النصر الحقيقي ليس في توقف الحرب فحسب، بل في استمرار الحياة رغمها، وهكذا، من بين الركام والدموع، تخرج غزة لتصلي الجمعة الأولى بعد عامين من الإبادة، وتقول بلسانها الجمعي :الله أكبر... هذا وعد الله، ونحن المنتصرون.