الوقت – في منتصف يونيو 2025، وقبيل اندلاع الحرب التي امتدت اثني عشر يوماً، أماطت وزارة الاستخبارات في الجمهورية الإسلامية الإيرانية اللثام عن إنجاز استخباراتي-عملياتي بالغ التعقيد، أحرزته القوات الإيرانية، تمثّل في الاستحواذ على حشد هائل من الوثائق والمستندات المتصلة بالبرامج العسكرية والنووية للكيان الصهيوني.
وبعد انقضاء نحو ثلاثة أشهر على ذلك الإعلان، كشفت وزارة الاستخبارات الإيرانية مؤخراً في تقرير رسمي عن تفاصيل أوفى للمعلومات الجوهرية التي غنمتها في هذه العملية التاريخية، وقد أفصح الوثائقي التلفزيوني الذي بثته الوزارة عن الظفر بـ"ملايين الصفحات من الوثائق السرية" من مراكز حساسة واستراتيجية للكيان الصهيوني، والتي يُرجح أنه تم استخلاص مكنوناتها وفك شفراتها وتمحيصها وتحليلها، لتتحول إلى ذخيرة ثمينة يمكن توظيفها في الميادين السياسية والاستخباراتية، بل والعسكرية والعملياتية.
وفق الوثائقي الذي نشرته وزارة الاستخبارات الإيرانية، تشتمل الوثائق المستحصلة على معلومات تتعلق بمنشآت نووية وعسكرية، وخرائط وصور دقيقة لمراكز سرية، وبيانات وهويات 189 من العلماء والخبراء النوويين والعسكريين في الكيان، بل وحتى معطيات تخصّ تجسس الموساد على شخصيات دولية مرتبطة بالوكالة الدولية للطاقة الذرية.
أثار عرض الوثائق والصور، بما فيها أجزاء تتعلق بمنشآت ديمونا، والكشف عن هويات عدد من العلماء العاملين في البرنامج العسكري النووي للكيان، صدى واسعاً في وسائل الإعلام المحلية والدولية، وأثار في الوقت ذاته تساؤلات عميقة حول مدى الهشاشة الأمنية للکيان الإسرائيلي.
من جانب آخر، زاد تزامن هذا الكشف مع اقتراب الذكرى السنوية لعملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2024 والفشل الاستخباراتي المدوي لـ "إسرائيل"، من الوقع النفسي والإعلامي لهذا الحدث الجلل.
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: ما أبعاد أهمية وتداعيات مثل هذا الاختراق الاستخباراتي الهائل؟ فيما يلي، نستجلي هذه التداعيات في سبعة محاور رئيسية:
1 — الاختراق الاستخباراتي والأمني وأثره النفسي على الصهاينة
يجسّد نشر تفاصيل الوثائق الحساسة والسرية للكيان، تجلياً صارخاً لقابلية اختراقه استخبارياً أمام الهجمات السيبرانية، أو عمليات التغلغل البشري، أو مزيج منهما.
وقد ظهر إسماعيل خطيب، وزير الاستخبارات الإيراني، بنفسه في هذا الوثائقي مؤكداً أن هذه العملية لم تُكلل بالنجاح فقط بفضل الأدوات السيبرانية، بل أيضاً باستثمار “مصادر بشرية داخل الأراضي المحتلة”.
في أجواء تعصف فيها التوترات وتتعمق الشروخ الاستخباراتية والسياسية بعد “الحرب الاثني عشرية”، يحمل هذا الكشف وظيفةً نفسيةً ودعائيةً بالغة القوة: فهو ينخر في ثقة الرأي العام الإسرائيلي الداخلي بقدرات وادعاءات المؤسسات الاستخباراتية والأمنية للكيان، ويعمّق الصدوع في جدار تماسكه السياسي الداخلي. ويتضاعف هذا الأثر في وقتٍ لا تزال فيه المناقشات العامة حول الإخفاقات الاستخباراتية في حادثة السابع من أكتوبر مشتعلةً، وجيش الاحتلال بعد قرابة ثلاث سنوات من الحرب المستعرة بكل ما أوتي من عتاد وحرية تصرف في سحق غزة وإبادة الأبرياء، يقف عاجزاً عن تحديد مواقع الأسرى وتحريرهم، مما يعزز إمكانية استثماره سياسياً داخلياً ودولياً.
2 — تعزيز الرصيد المعلوماتي الإيراني وتحويله إلى رافعة استراتيجية في المواجهات المقبلة
يتيح الوصول إلى وثائق المنشآت النووية والخرائط وقوائم الاستهداف الاستراتيجي لإيران، فرصة بناء قاعدة معلومات دقيقة عن الأهداف الحيوية والشبكات اللوجستية والبشرية للكيان، ويمكن توظيف هذه المعلومات المنظمة في تصميم ضربات محددة – سواء سيبرانية أو مادية – ورفع كلفة استمرار العمليات العسكرية للطرف المقابل.
وقد أظهرت تجربة “الحرب الاثني عشرية” أن المعلومات الدقيقة عن الأهداف الحيوية (كالمنشآت التحتية ومستودعات الأسلحة التي تقطع خط الإمداد اللوجستي للحرب)، يمكن أن تقلب موازين القوى الميدانية في لمح البصر؛ فنشر واستخدام مثل هذه القواعد المعلوماتية، قد يعيد صياغة معادلات الردع المتبادل والتقديرات الاستراتيجية للأطراف في السيناريوهات المستقبلية.
وعلى الرغم من غياب التصريحات الرسمية من مسؤولي الجمهورية الإسلامية في هذا الصدد، يمكن استشراف احتمال توظيف المعلومات المستحصلة في الهجمات الصاروخية ضمن عملية “الوعد الصادق 3” على مراكز حساسة في الأراضي المحتلة، حيث ألقى تدمير المنشآت الاستراتيجية للكيان في بئر السبع جنوب الأراضي المحتلة، قادة الكيان ووسائل إعلامه في دوامة من الذهول والحيرة.
3 — بثّ الرعب وزعزعة الثقة بين العلماء والخبراء والكوادر العسكرية
يلقي كشف هويات العلماء والخبراء والكوادر العسكرية (بمن فيهم الطيارون وأفراد سلاح الجو)، عبئاً نفسياً وأمنياً باهظاً على الأفراد وعائلاتهم: من تهديد للسلامة الشخصية، وإمكانية الملاحقة القضائية أو السياسية على الساحة الدولية، وتضخم تكاليف الحماية والعمليات للكيان، وقد يفضي هذا إلى تضاؤل رغبة المشاركين (الرسميين والمتعاقدين) في البرامج الحساسة، ونزيف العقول، أو إعادة النظر جذرياً في أساليب الحماية، وعلى المستوى المؤسسي، قد يؤدي شبح الانكشاف إلى تعقيد وإبطاء المشاريع الحساسة، وإضافة طبقات أمنية باهظة التكلفة، وحتى هجرة كوادر محورية، ومن المنظور العسكري، إذا استشعر الطيارون أو الكوادر الرئيسية هشاشة موقفهم، فستنحدر كفاءة العمليات المحفوفة بالمخاطر والمهمات الدقيقة.
4 — تقويض سياسة “الغموض النووي” والضغط الدولي من أجل الشفافية
حافظ الكيان الصهيوني على مدى عقود على سياسة “الغموض النووي”، ليبقى بمنأى عن الإدانات الرسمية ويحتفظ برافعة ردع غير محددة ضد منافسيه الإقليميين. ومن شأن كشف الوثائق المتعلقة بالبرامج النووية والعسكرية، أن يقوّض غطاء التعمية هذا. فإذا بدت الوثائق والأدلة التي تكشف عن أنشطة سرية جديرة بالاعتبار، ستتضخم الروافع القانونية والسياسية للضغط على "إسرائيل"، وقد تطالب المؤسسات الدولية (بما فيها الوكالة الدولية للطاقة الذرية والهيئات القانونية) بالمساءلة والتفتيش والمزيد من الشفافية، وهذا لا يرفع التكلفة الدبلوماسية على "إسرائيل" فحسب، بل يتساوق مع هدف طهران لوضع الأنشطة العسكرية والنووية للكيان في بؤرة الاهتمام، باعتبارها تهديداً أمنياً جسيماً للسلام والاستقرار الإقليمي والدولي.
5 — التبعات الإقليمية والتأثير على معادلات الردع في غرب آسيا
لا تقتصر تداعيات كشف هذه الوثائق على الشأن الداخلي لـ "إسرائيل"، بل تمتد أذرعها إلى المستوى الإقليمي. فالدول المجاورة – بما فيها الأردن ومصر وحتى الدول الخليجية – التي اعتادت التعاون أو التنسيق مع تل أبيب في المعادلات الأمنية والاستخباراتية، تواجه الآن سؤالاً محورياً حول مدى هشاشة الكيان وخطورة الاعتماد المفرط على قدراته الاستخباراتية، وقد يغيّر هذا الوضع حساباتها الأمنية تجاه إيران، ويعزّز موقف طهران التفاوضي لتحسين مكانتها الإقليمية والتباحث حول ترتيبات أمنية أوسع نطاقاً وأعمق تأثيراً.
6 — التأثير على علاقات "إسرائيل" مع الداعمين الغربيين
لطالما قدّم الكيان الصهيوني أمنه المعلوماتي وقدرته على صدّ الاختراقات، كأحد أركان علاقته المتميزة مع الولايات المتحدة وأوروبا، وإذا ثبت تسرب شطر وافر من البيانات السرية أو وقوعها فعلياً في قبضة إيران، فستتصدع الثقة بالشراكة الأمنية والاستخباراتية معه، وهذا يستدعي حتماً إعادة النظر في تبادل المعلومات وتقييد مستوى التعاون السري، وهو ما يمثّل هزيمةً استراتيجيةً مدويةً لتل أبيب.
7 — التداعيات الاقتصادية والتكنولوجية
قد يجلب نشر الوثائق المتعلقة بالخبراء والمراكز العلمية وحتى الشركات الخاصة المرتبطة بالبرامج الدفاعية والنووية الإسرائيلية، تكاليف اقتصادية فادحة، فمن جهة، سيضطر الكيان إلى تضخيم ميزانية الأمن السيبراني والحماية المادية؛ ومن جهة أخرى، قد تقلص بعض الشركات أو الخبراء الأساسيين تعاونهم أو حتى يهجرون "إسرائيل" خشية التهديدات الأمنية أو الملاحقات الدولية، وقد يفضي هذا المسار إلى تآكل تدريجي للقدرات التكنولوجية الإسرائيلية في المجالات الحساسة، ما يحدّ من تفوقها النوعي الذي طالما تباهت به في المحافل الدولية.
اتخذ الكيان الصهيوني حتى هذه اللحظة مسلكاً مركباً من التعتيم والجحود، ومحاولة الطعن في السرد الإيراني إزاء هذه الانتكاسة الاستخباراتية الفادحة، غير أن هذه السياسة لن تؤتي ثمارها سوى في الأمد القصير لتخفيف وطأة تبعاتها، وما هي إلا برهة حتى تنجلي الظلمات المحيطة بهذا الملف المخزي، ما سيضاعف ضغط الرأي العام والمعارضة، ويذكي أوار الصراعات الداخلية في كيانٍ يترنح تحت وطأة أزماته المتلاحقة.