الوقت- في وجه آلة حرب لا ترحم، وحصار يهدف إلى كسر الإرادة، تقف المقاومة الفلسطينية في غزة شامخة، راسمةً ملحمة من الصمود الأسطوري الذي أذهل العالم، بينما يراهن الكيان الصهيوني وحلفاؤه على أن الضغط العسكري الساحق والتدمير الممنهج سيجبران المقاومة على رفع الراية البيضاء، تأتي الوقائع الميدانية والتحليلات الاستراتيجية لتؤكد حقيقة مغايرة تماماً: الاستسلام ليس خياراً مطروحاً على الطاولة، إن جوهر المقاومة لا يكمن فقط في قوتها العسكرية، بل في عقيدتها الراسخة التي تعتبر المقاومة وجوداً بحد ذاته، وأن التنازل عن السلاح يعني التنازل عن القضية الفلسطينية برمتها، لقد أثبتت معركة طوفان الأقصى وما تلاها من عدوان غاشم أن المقاومة انتقلت من الدفاع إلى مرحلة فرض المعادلات، وأن صمودها لم يعد مجرد تكتيك للبقاء، بل استراتيجية شاملة لإعادة تعريف الصراع، وكشف هشاشة الكيان المحتل الصهيوني.
عقيدة القتال.. سر الصمود الذي لا يُقهر
إن الفهم السطحي للصراع قد يدفع البعض للتساؤل عن سر استمرار المقاومة في وجه قوة عسكرية غاشمة، لكن الجواب يكمن في عمق العقيدة القتالية التي تحرك رجالها، هذه العقيدة ليست مجرد تكتيكات عسكرية، بل هي مزيج من إيمان ديني راسخ ووعي وطني عميق بأن هذه الأرض هي حق لا يمكن التنازل عنه.
يرى المقاتل الفلسطيني أن معركته ليست مجرد دفاع عن أرض، بل هي جهاد مقدس وصبر على البلاء، حيث يصبح الصمود بحد ذاته انتصاراً، والبقاء على قيد الحياة هو شهادة على فشل العدو، هذا ما يجهله المحتل الذي يقيس النصر والهزيمة بمعايير مادية بحتة، كعدد المباني المدمرة أو حجم القوة النارية، لقد اعترف محللون إسرائيليون أنفسهم بأنهم يواجهون عدواً يقاتل بفكرة، والفكرة لا تموت بالقصف، إن استراتيجية المقاومة مبنية على الاستنزاف طويل الأمد، وتحويل كل شبر من غزة إلى ساحة معركة تكبد العدو خسائر فادحة، ليس فقط في العتاد والجنود، بل في صورته وهيبته التي بناها على مدى عقود، لذلك، فإن كل يوم يمر دون أن يحقق الكيان الصهيوني هدفه المعلن بالقضاء على حماس هو بمثابة نصر استراتيجي للمقاومة.
الإعلام العبري يعترف.. حماس فكرة لا تموت
من اللافت للنظر أن شهادة الفشل لم تأتِ فقط من أفواه المحللين العرب أو المتعاطفين مع القضية الفلسطينية، بل من قلب الكيان الصهيوني نفسه، بدأت الأصوات داخل الإعلام والمؤسسات البحثية العبرية تتعالى، معترفةً بحقيقة أن القضاء على حماس كفكرة هو هدف مستحيل التحقيق، تشير تقارير وتحليلات منشورة في صحف مثل "هآرتس" و"يديعوت أحرونوت" إلى أن حماس ليست مجرد تنظيم عسكري يمكن تفكيكه، بل هي حركة اجتماعية وسياسية متجذرة في نسيج المجتمع الفلسطيني، تستمد قوتها من الظلم المستمر والاحتلال.
يقر الخبراء الصهاينة بأن كل عملية عسكرية يشنها الكيان الصهيوني لا تؤدي إلا إلى زيادة شعبية المقاومة وتخلق جيلاً جديداً أكثر تصميماً على مواصلة النضال، لقد تحولت غزة، بفعل العدوان المتكرر، إلى رمز عالمي للمقاومة، وأصبحت حماس في نظر الكثيرين حول العالم ليست "منظمة إرهابية" كما يروج الاحتلال، بل حركة تحرر وطني تقاتل من أجل أبسط حقوق الإنسان، هذا الاعتراف الداخلي بهزيمة الأهداف الاستراتيجية للحرب يمثل بحد ذاته انتصاراً سياسياً ومعنوياً كبيراً للمقاومة، ويثبت أن الرهان على الحل العسكري قد وصل إلى طريق مسدود.
العزلة الدولية للاحتلال.. حين ينقلب السحر على الساحر
لم تكن تداعيات معركة طوفان الأقصى والعدوان الوحشي على غزة محصورة في الميدان العسكري فقط، بل امتدت لتحدث زلزالاً سياسياً ودبلوماسياً وضع الكيان الصهيوني في عزلة دولية غير مسبوقة، إن مشاهد القتل والتدمير الممنهج التي بثتها وسائل الإعلام حول العالم، والتي استهدفت الأطفال والنساء والمستشفيات والمدارس، حطمت الرواية الإسرائيلية التي طالما صورت نفسها كـ "ضحية" في "واحة الديمقراطية".
تحركت الشعوب في عواصم العالم، من لندن ونيويورك إلى طوكيو وسيدني، في تظاهرات مليونية تندد بجرائم الحرب الإسرائيلية وتطالب بوقف فوري لإطلاق النار، على المستوى الرسمي، بدأت دول كانت تعتبر حليفة للاحتلال، أو على الأقل محايدة، في تغيير مواقفها، حيث رأينا دولاً أوروبية وأمريكية لاتينية تسحب سفراءها وتوجه انتقادات حادة للكيان الصهيوني، هذا التحول في الرأي العام العالمي والضغط الدبلوماسي المتزايد لم يكن ليحدث لولا صمود المقاومة على الأرض، التي نجحت في كشف الوجه الحقيقي للاحتلال، لقد أصبح دعم الكيان الصهيوني عبئاً أخلاقياً وسياسياً على حلفائه، وهذا بحد ذاته يعد مكسباً استراتيجياً هائلاً للقضية الفلسطينية، ويثبت أن المقاومة لا تقاتل فقط بالسلاح، بل بالصورة والحقيقة.
تآكل الردع الصهيوني.. من الهجوم الخاطف إلى حرب الاستنزاف
إن أحد أهم التحولات الاستراتيجية التي فرضتها المقاومة الفلسطينية، وتجلّت بوضوح في معركة طوفان الأقصى وما بعدها، هو التآكل الكامل لمفهوم "الردع" الذي بنى عليه الكيان الصهيوني عقيدته الأمنية لعقود، كان الكيان الصهيوني يعتمد على فكرة توجيه ضربات خاطفة وساحقة تنهي أي مواجهة بسرعة وتترك الطرف الآخر في حالة من الصدمة واليأس، لكن المقاومة، بفضل تخطيطها الدقيق وتطويرها لتكتيكات غير متماثلة، قلبت هذه المعادلة رأساً على عقب، لقد نجحت في جر جيش الاحتلال إلى حرب استنزاف طويلة الأمد داخل أزقة ومخيمات غزة، وهو ما يخشاه القادة العسكريون الصهاينة أكثر من أي شيء آخر، فبدلاً من تحقيق نصر سريع وحاسم، وجد جيش الاحتلال نفسه غارقاً في وحل غزة، يواجه مقاتلين أشباح يخرجون من باطن الأرض، ويستخدمون شبكة أنفاق معقدة شلت قدرة التكنولوجيا العسكرية الفائقة، إن كل دبابة يتم تدميرها، وكل كمين ناجح، وكل يوم يمر دون تحقيق الأهداف، لا يمثل فقط خسارة مادية، بل هو ضربة موجعة لصورة الجيش "الذي لا يقهر"، ويؤكد للعالم أن القوة العسكرية وحدها لم تعد كافية لكسر إرادة شعب يطالب بحريته.
في نهاية المطاف، يتضح أن صمود المقاومة في غزة ليس مجرد فصل عابر في تاريخ الصراع، بل هو نقطة تحول استراتيجية تعيد كتابة قواعد الاشتباك. لقد أثبتت المقاومة أن الإرادة والعقيدة أقوى من الترسانات العسكرية، وأن الحق لا يموت بالتقادم أو بالقوة الغاشمة، من خلال تآكل قوة الردع الصهيونية، والاعترافات الصادرة من قلب الإعلام العبري بفشل الأهداف العسكرية، وتزايد العزلة الدولية للكيان المحتل، رسمت المقاومة ملامح نصر يتجاوز الحسابات المادية. إنها معركة الوعي والإرادة بقدر ما هي معركة السلاح، وبينما يراهن الاحتلال على الزمن لكسر شوكة غزة، يثبت التاريخ أن الشعوب التي تقاتل من أجل حريتها وكرامتها لا تعرف معنى الاستسلام، ستبقى غزة ومقاومتها منارة للأحرار، وشاهدة على أن الحق، مهما طال الظلم، لا بد أن ينتصر في النهاية.