الوقت- أثار رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس جدلاً واسعاً في الأوساط الفلسطينية والعربية والدولية بعد تصريحاته الأخيرة التي قال فيها إن حركة حماس لن يكون لها أي دور في غزة بعد انتهاء الحرب، وإنها مطالبة بتسليم سلاحها ومعداتها العسكرية إلى السلطة الفلسطينية والتحول إلى حزب سياسي يعمل في الإطار المدني فقط، هذه التصريحات جاءت في رسائل رسمية بعث بها عباس إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، حيث أوضح فيها أن ترتيبات ما بعد الحرب في غزة يجب أن تتم وفق إطار سياسي جديد لا مكان فيه للفصائل المسلحة، مؤكداً على ضرورة أن يترافق ذلك مع ضمانات دولية واضحة وملزمة، هذا الموقف يعكس بوضوح رؤية السلطة الفلسطينية التي تسعى إلى إعادة بسط نفوذها في القطاع بعد أكثر من ستة عشر عاماً من فقدان السيطرة لصالح حماس، لكنه في المقابل أثار سلسلة من الانتقادات والرفض من قبل حماس وفصائل المقاومة ومن قطاعات واسعة من الشارع الفلسطيني.
عند النظر إلى مضمون هذه التصريحات يمكن تلمّس عدة إشكاليات أساسية، أولها أن عباس يتحدث عن دور للسلطة الفلسطينية في غزة وكأنها تمتلك القدرة الفعلية على فرض هذا الدور، في حين أن الوقائع الميدانية تشير إلى أن السلطة فقدت سيطرتها على القطاع منذ عام 2007، وأن حماس بنت خلال هذه الفترة منظومة عسكرية وأمنية راسخة، إضافة إلى حضور شعبي قوي اكتسبته من خلال موقعها كممثل رئيسي للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، إن افتراض أن هذه القوة ستتخلى ببساطة عن سلاحها دون مقابل أو دون ترتيبات شاملة يفتقر إلى الواقعية السياسية، ويجعل تصريحات عباس تبدو وكأنها موجهة أساساً إلى الخارج أكثر مما هي موجهة للداخل الفلسطيني.
الإشكالية الثانية تتعلق بما يمثله مطلب نزع سلاح حماس من تهديد مباشر لفكرة المقاومة ذاتها، فبالنسبة لجزء كبير من الفلسطينيين، المقاومة المسلحة ليست خياراً حزبياً أو فصائلياً، بل هي ضرورة فرضها استمرار الاحتلال والحصار، المطالبة بتجريد حماس من سلاحها دون ضمانات حقيقية بإنهاء الاحتلال ورفع الحصار وتوفير الحماية للشعب الفلسطيني تعني عملياً حرمان الفلسطينيين من وسيلة دفاع يرونها مشروعة، ولهذا فإن الموقف الذي عبّر عنه عباس يُفهم لدى خصومه وقطاعات واسعة من الفلسطينيين على أنه محاولة لشرعنة تصفية المقاومة استجابة لمطالب خارجية، بدلاً من كونه خطوة نحو تحقيق وحدة وطنية أو بناء دولة مستقلة.
الإشكالية الثالثة ترتبط بالسياق الدولي والإقليمي الذي تأتي فيه هذه التصريحات، من الواضح أن عباس يراهن على أن مواقفه ستحظى بقبول أوروبي وعربي، وخاصة من دول كفرنسا والسعودية، التي قد ترى في نزع سلاح الفصائل ضمانة للاستقرار ولإمكانية إعادة إعمار غزة في مرحلة ما بعد الحرب. لكن هذه الرهانات تطرح تساؤلاً مشروعاً: هل ينبغي أن تكون الأولوية كسب رضا العواصم الغربية والعربية على حساب الموقف الشعبي الفلسطيني؟ وهل من المنطقي أن يتم بناء مستقبل غزة على أساس شروط خارجية تُفرض على فصيل رئيسي له قاعدة جماهيرية واسعة؟ في هذا السياق، يبدو أن عباس يحاول استثمار لحظة الحرب لتقديم نفسه باعتباره البديل المقبول دولياً لإدارة القطاع، حتى لو كان ذلك على حساب الوحدة الوطنية الفلسطينية.
النقطة الرابعة تتعلق بأثر هذه التصريحات على جهود المصالحة الداخلية، منذ سنوات والحديث قائم عن ضرورة توحيد الصف الفلسطيني بين فتح وحماس والفصائل الأخرى من أجل مواجهة الاحتلال بشكل أكثر فاعلية، لكن تصريحات عباس الأخيرة لا تسهم في تعزيز هذه الجهود، بل على العكس تزيد من حدة الانقسام، فحين يُعلن رئيس السلطة أن حماس لا دور لها بعد الحرب، فإنه عملياً يلغي شريكاً أساسياً من المعادلة، ويدفع نحو مزيد من التوتر الداخلي، هذا التوجه يعاكس تماماً ما يحتاجه الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة الحرجة، إذ إن أي مشروع وطني لا يمكن أن ينجح دون إشراك جميع القوى الفاعلة، وفي مقدمتها حماس التي تسيطر فعلياً على غزة.
إضافة إلى ذلك، فإن التوقيت الذي اختاره عباس لطرح هذه المواقف يبدو غير موفق، فالفلسطينيون في غزة يعيشون لحظة قاسية نتيجة الحرب والدمار وفقدان الآلاف من الشهداء والمصابين، وفي مثل هذه الظروف، يصبح الحديث عن نزع سلاح المقاومة وكأنه محاولة لتقويض القدرة الدفاعية للشعب الفلسطيني في ذروة معاناته، إن أي خطوة في هذا الاتجاه لا بد أن تكون جزءاً من تسوية سياسية شاملة تضمن حقوق الفلسطينيين الأساسية في التحرر والاستقلال والأمن، لا أن تُطرح كشرط مسبق أو كخيار أحادي الجانب.
من الناحية العملية أيضاً، يطرح كثير من المراقبين تساؤلات حول كيفية تطبيق ما يطرحه عباس، فحتى لو افترضنا أن المجتمع الدولي قدّم ضمانات، كيف يمكن إقناع حماس بالتخلي عن سلاحها دون وجود اتفاق وطني شامل يشارك فيه الجميع؟ وهل يمكن للسلطة التي تواجه أصلاً أزمة شرعية في الضفة الغربية أن تُقنع أهالي غزة بقبول عودتها على هذا الأساس؟ يبدو أن هذه الأسئلة تكشف أن تصريحات عباس تفتقر إلى خطة واقعية واضحة، وأنها أقرب إلى محاولة لإعادة تسويق السلطة على الساحة الدولية أكثر من كونها برنامجاً قابلاً للتنفيذ.
في ضوء كل ما سبق، يمكن القول إن تصريحات محمود عباس تعكس مأزق السلطة الفلسطينية في هذه المرحلة. فهي من جهة تريد أن تستعيد موقعها كمرجعية سياسية وحيدة للشعب الفلسطيني، لكنها من جهة أخرى تواجه حقيقة أن حماس باتت لاعباً أساسياً لا يمكن تجاوزه، وبينما يراهن عباس على دعم خارجي يعزز موقفه، فإنه يخسر في المقابل رصيداً داخلياً متزايداً، إذ يشعر كثير من الفلسطينيين بأن السلطة لم تعد تمثل تطلعاتهم، وبأنها تضع مصالحها في البقاء في الواجهة قبل مصالح الشعب، إن الطريق إلى حل حقيقي لا يمر عبر إقصاء حماس أو محاولة فرض شروط غير واقعية عليها، بل عبر حوار وطني شامل يضع أسساً جديدة للشراكة السياسية ويوازن بين متطلبات المقاومة ومتطلبات الدولة.
الرؤية النقدية لهذه التصريحات لا تعني تجاهل أهمية بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية أو الحاجة إلى إصلاح الوضع الأمني والسياسي في غزة، لكن الإصلاح الحقيقي لا يتم عبر الإملاءات أو استنساخ نماذج خارجية، بل عبر تفاهم فلسطيني داخلي يراعي خصوصية الوضع ويأخذ بعين الاعتبار التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني، ولذلك فإن أي مقترح لتسليم السلاح أو دمج القوى المقاومة في مؤسسات السلطة يجب أن يكون جزءاً من اتفاق شامل يتضمن إنهاء الاحتلال، ورفع الحصار، وضمان الأمن، وتوفير العدالة، وإعادة الإعمار، ودون هذه الأسس، فإن أي محاولة لنزع سلاح المقاومة لن تكون سوى وصفة لمزيد من الانقسام والفشل.
في النهاية، ما يحتاجه الفلسطينيون اليوم ليس مزيداً من الانقسامات والخطابات التي تُقصي هذا الطرف أو ذاك، بل رؤية وطنية جامعة تُعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية وتوحد الجهود في مواجهة الاحتلال، وإذا أراد عباس أن يستعيد شرعيته وأن يُسهم في تحقيق هدف الدولة الفلسطينية المستقلة، فعليه أن يبدأ من الداخل، بالحوار مع حماس والفصائل الأخرى، لا بتقديم تعهدات للخارج، أما الشعب الفلسطيني الذي دفع ثمناً باهظاً في هذه الحرب، فهو يستحق قيادة تضع مصلحته أولاً، وتعمل بصدق على تحقيق تطلعاته، لا أن تتعامل معه كأداة في لعبة سياسية دولية.