الوقت - تحولت قضية تمديد أو إنهاء مهمة قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) في الآونة الأخيرة، إلى محور دبلوماسي بالغ الأهمية على الصعيدين الإقليمي والدولي، هذه القوات التي استقرت في لبنان منذ عام 1978 إثر اجتياح الكيان الصهيوني للجنوب اللبناني، تقف اليوم على مفترق طرق مصيري مع اقتراب انتهاء فترة تفويضها.
يضطلع مجلس الأمن الدولي سنوياً بمهمة البتّ في تجديد أو تعديل تفويض هذه القوات، غير أن مشاورات هذا العام تكتسي طابعاً مغايراً: إذ تجاهر "إسرائيل" والولايات المتحدة برفضهما استمرار اليونيفيل بصيغتها الراهنة، بينما يشدّد لبنان، بدعم من فرنسا وبعض الدول الأخرى، على ضرورة الإبقاء على هذه القوات بوصفها ركيزة الاستقرار في الجنوب.
يتجاوز هذا الصراع لكونه مجرد قرارٍ تقني حول وجود قوات حفظ السلام، ليرتبط بقضايا أكثر جوهريةً كمستقبل حزب الله والمخطط الواسع لنزع سلاحه، وعلاقات لبنان مع الغرب، وحتى المعادلات الإقليمية في أعقاب الحرب التي استعرت اثني عشر يوماً بين إيران والكيان الصهيوني.
ضغوط أمريكية وإسرائيلية لتقييد دور اليونيفيل
ليست معارضة الولايات المتحدة و"إسرائيل" للتجديد الكامل لمهمة اليونيفيل، بالأمر المستحدث، فمنذ سنوات عديدة، تساور تل أبيب الشكوك حول جدوى هذه القوات، زاعمةً أن وجودها لم يحُل دون توسع نشاطات حزب الله.
بيد أن تحولاً جوهرياً طرأ في عام 2022: إذ أقر مجلس الأمن، بإلحاح من أمريكا وحلفائها، تعديلاً يسمح لليونيفيل بالتحرك في جنوب نهر الليطاني دون التنسيق مع الجيش اللبناني، أثار هذا التغيير احتجاجاً عارماً من حزب الله، واعتبرته بعض التيارات السياسية اللبنانية انتهاكاً للسيادة الوطنية.
والآن، تمضي أمريكا والكيان الصهيوني خطوةً أبعد، فهما لا يعارضان التجديد الكامل للمهمة فحسب، بل يسعيان أيضاً إلى تضمين القرار الجديد جدولاً زمنياً للانسحاب التدريجي لقوات حفظ السلام.
وفي تصور واشنطن وتل أبيب، ينبغي أن تضطلع اليونيفيل، إن استمرت، بمهمة مغايرة: تيسير عملية نزع سلاح حزب الله في إطار اتفاق وقف إطلاق النار الأخير، وضمان أمن الحدود تحت سيطرة الجيش اللبناني. وهذا، في ضوء الضعف العسكري الجلي للجيش في الدفاع عن سلامة أراضي البلاد ضد اعتداءات الكيان الصهيوني، يعني فقدان لبنان التام لقدراته الدفاعية وإطلاق يد الصهاينة لمواصلة احتلال المزيد من الأراضي اللبنانية.
يكشف هذا الموقف بجلاء أن مهمة حفظ السلام، من منظور أمريكا و"إسرائيل"، قد استحالت إلى أداة للضغط على المقاومة وقلب موازين القوى في جنوب لبنان.
دور فرنسا والاصطفاف في مجلس الأمن
اضطلعت فرنسا تقليدياً بدور محوري في استمرار مهمة اليونيفيل، سواء من حيث مشاركة قواتها أو بحكم علاقاتها التاريخية مع لبنان، وفي الظرف الراهن، أعدّت باريس مسودة قرار التمديد، وتسعى جاهدةً لبناء توافق بين أعضاء مجلس الأمن، تهدف فرنسا إلى الحفاظ على نفوذها التاريخي في لبنان بدعم مواقف الحكومة، ومساندة بيروت في تعزيز سيطرتها على الحدود، مع تهيئة المناخ الداخلي والدولي، تماشياً مع توجهات الحكومة، لدفع عملية نزع سلاح المقاومة.
غير أن مسار التوافق محفوف بالصعاب، فأمريكا و"إسرائيل" تضغطان لإدراج بنود أكثر صرامةً في القرار، أما روسيا والصين فتعارضان عادةً مثل هذه التغييرات، معتبرتين إياها تسييساً لمهام حفظ السلام، وقد أفضت هذه الخلافات إلى جلسات متوترة خلف أبواب مجلس الأمن المغلقة.
وفقاً لمسودة فرنسا، يُمدد عمل اليونيفيل لعام آخر، مع الإشارة في نص القرار إلى الانسحاب التدريجي لهذه القوات بحلول عام 2026، ويمثّل هذا البند نقطة الخلاف الرئيسية: بالنسبة للبنان وحلفائه، فإن أي إشارة إلى جدول الانسحاب قد تُفسر كإشارة سلبية وضوء أخضر للکيان الإسرائيلي.
موقف الحكومة والجيش اللبناني
أعلن لبنان في موقفه الرسمي صراحةً رغبته في استمرار وجود اليونيفيل، وقد أكد جوزيف عون، رئيس الجمهورية اللبنانية، خلال لقائه بقائد القوات الدولية، أن أي تغيير في المهمة أو جدول الانسحاب سيكون له تداعيات سلبية على أمن الجنوب، وشدّد على أن هذه القوات لا تزال ضروريةً لتنفيذ القرار 1701، ولا سيما أن جزءاً من الأراضي اللبنانية لا يزال تحت نير الاحتلال الإسرائيلي.
كما أبلغت الحكومة اللبنانية مجلس الأمن أن الجيش اللبناني يعزز وجوده في الجنوب، وسيرتفع عدد قواته إلى عشرة آلاف جندي، بيد أن قدرة الجيش على الحلول محلّ اليونيفيل بالكامل موضع تساؤل، فالبنية الاقتصادية للبنان تعاني أزمةً طاحنةً، والجيش يئنّ تحت وطأة نقص المعدات والموارد المالية، ولهذا، يرى المسؤولون اللبنانيون أن الانسحاب المتسرع للقوات الدولية قد يُحدث فراغاً أمنياً هائلاً.
اليونيفيل وحزب الله والقرار 1701
واجهت اليونيفيل منذ بداية وجودها في لبنان تحديات متعددة، ولعل أبرزها علاقتها المعقدة مع حزب الله، فمن ناحية، تُكلف هذه القوات بالمساعدة في تنفيذ القرار 1701، الذي يدعو إلى وقف الاشتباكات ونزع سلاح الجماعات المسلحة في الجنوب، ومن ناحية أخرى، احتجّ حزب الله، بوصفه القوة المدافعة الفعلية عن لبنان ضد اعتداءات الكيان الصهيوني، مراراً على أداء اليونيفيل وتقاعسها إزاء الانتهاكات المتكررة للجيش الصهيوني وإجراءاتها دون تنسيق مع الجيش.
لقد أضاف اتفاق وقف إطلاق النار الأخير بين "إسرائيل" وحزب الله، بُعداً جديداً للقضية، فبموجب هذا الاتفاق، مقابل انسحاب قوات الجيش الصهيوني الكامل من الأراضي اللبنانية وعدم انتهاك سلامة أراضي البلاد، يوافق حزب الله على الانسحاب من المناطق الحدودية جنوب الليطاني وتفكيك بنيته التحتية العسكرية بحلول نهاية العام، وفي المقابل، يتولى الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل مسؤولية مراقبة المنطقة.
اتخذت أمريكا والكيان الصهيوني من هذا الاتفاق ذريعةً لتقييد الدور العسكري لحزب الله، غير أن المعضلة الأساسية تكمن في أن "إسرائيل"، باستمرارها في احتلال خمس نقاط في جنوب لبنان وشنها هجمات يومية على المناطق الجنوبية، ما أسفر عن خسائر بشرية ومادية، هي المنتهك الرئيسي لاتفاق وقف إطلاق النار المبرم في فبراير 2024.
من منظور حزب الله، لا ينبغي أن تتحول اليونيفيل إلى أداة لتنفيذ سياسات واشنطن وتل أبيب، ورغم أن الحزب لم يعارض علناً تمديد المهمة حتى الآن، إلا أنه حذّر من أي تعديل في الصلاحيات يُعد تدخلاً مباشراً ضده.
السيناريوهات المحتملة للبنان والمنطقة
مع اقتراب موعد التصويت في مجلس الأمن، تبرز عدة سيناريوهات محتملة:
التمديد الكامل مع تغييرات محدودة: في هذه الحالة، تُمدد مهمة اليونيفيل لعام آخر، ولا تُدرج التعديلات التي تقترحها أمريكا و"إسرائيل" بالكامل في نص القرار. يُفضل لبنان وفرنسا وروسيا والصين هذا السيناريو. وستكون نتيجته استمرار الاستقرار النسبي في الجنوب، رغم استمرار الضغوط على حزب الله، لكن المعادلة العسكرية في الجنوب لن تتغير وفق رغبات "إسرائيل" وأمريكا، وستحتفظ المقاومة بقوتها العسكرية وقدرتها الردعية.
التمديد المشروط مع الإشارة إلى الانسحاب التدريجي: وهو ما تتضمنه المسودة الفرنسية، في هذه الحالة، تبقى اليونيفيل حتى عام 2026، لكن يُدرج جدول زمني لانسحابها في النص، يثير هذا الخيار قلق لبنان، إذ قد يشجّع "إسرائيل" على تصعيد عملياتها العسكرية في المستقبل القريب.
عدم التمديد والانسحاب المبكر: احتمال أضعف، لكنه وارد في حال استخدمت أمريكا أدوات ضغط شديدة، قد يخلق هذا السيناريو فراغاً أمنياً خطيراً، ويمهّد الطريق لمواجهات جديدة بين حزب الله و"إسرائيل".
خلاصة القول
يتجاوز النزاع حول مصير اليونيفيل لكونه مجرد نقاش تقني في مجلس الأمن؛ إنه انعكاس لصراعات إقليمية ودولية أوسع نطاقاً، يسعى الكيان الصهيوني وأمريكا إلى تحويل وجود قوات حفظ السلام إلى رافعة لتقييد حزب الله، بينما يؤكد لبنان وفرنسا وحلفاؤهما على دور هذه القوات كركيزة للاستقرار.
بالنسبة للبنان، تمثّل هذه المعركة الدبلوماسية اختباراً كبيراً: فعليه من جهة أن يثبت قدرته على صون سيادته وأمن جنوبه، ومن جهة أخرى، لا يمكنه، في ظل ضعف جيشه، ضمان أمن البلاد الهش دون سلاح المقاومة، وستؤثر نتيجة هذه المفاوضات ليس فقط على مستقبل اليونيفيل، بل أيضاً على المسار السياسي والأمني للبنان، وحتى على توازن القوى في المنطقة بأسرها.