الوقت - يرزح الكيان الصهيوني تحت وطأة أزمة جديدة تستشري في الداخل، في وقتٍ يلهث فيه وراء تمديد فترة استنفار عشرات الألوف من جنود الاحتياط، ويدفع بخطة إدماج المتدينين اليهود “الحريديم” في معترك الجندية لمجابهة النقص الفادح في القوى البشرية، هذه الأزمة المتفاقمة تنذر بتحولها إلى تيارٍ جارف مناهض للحرب في صميم النسيج المجتمعي الإسرائيلي، وقد أفصح المقربون من واسرشتاين أنه خاض غمار أحداث ووقائع بلغت في قسوتها مبلغاً لا يطاق.
غير أن جوهر المعضلة يكمن في أن جيش الاحتلال يأبى أن يدرج واسرشتاين، وكذلك آرييل تامان - جندي احتياط آخر أزهق روحه بعد انقضاء خدمته - ضمن سجل الجنود الذين لقوا حتفهم في الميدان العسكري، ما أجّج نيران الاحتجاج في أوصال المجتمع الصهيوني تنديداً بهذا التجاهل المتعمد.
واستجابةً لهذه القضية المستعرة، أصدر “إيال زامير”، رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، توجيهاته لدراسة إمكانية تبديل القانون الذي يتيح للجيش الاعتراف رسمياً، في حالات استثنائية، بجنود الاحتياط الذين قضوا نحبهم خارج دائرة التزاماتهم العسكرية - كالانتحار - شريطة إثبات وجود صلة وثيقة بين الوفاة وفترة الخدمة العسكرية.
وفي السياق ذاته، أمر رئيس إدارة الموارد البشرية في الجيش، بتناغم مع يسرائيل كاتس وزير الحرب وإيال زامير رئيس الأركان، بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق المتصلة بالجنود وقوات الاحتياط المسرحين، الذين أقدموا على قطع خيط حياتهم بسبب الضغوط النفسية والجسدية الهائلة التي تولدت من رحم تجاربهم العسكرية.
والحق يقال، إن ما دفع قادة جيش الاحتلال الإسرائيلي للانصياع لصيحات الاحتجاج، هو التصاعد المريع في معدلات الانتحار بين صفوف جنوده، فوفقاً للبيانات الرسمية، شهدت أعداد الجنود النظاميين والاحتياط الذين أزهقوا أرواحهم بأيديهم أثناء تأدية الخدمة منذ اندلاع نيران الحرب في أكتوبر 2023، ارتفاعاً ملحوظاً مقارنةً بالأعوام السالفة، إذ تكشف المعطيات أن سبعة جنود من جيش الكيان الصهيوني أقدموا على الانتحار أثناء الخدمة في الفترة من السابع من أكتوبر 2023 حتى انتهاء ذلك العام، بينما تصاعد هذا الرقم ليبلغ واحداً وعشرين جندياً في عام 2024.
وما يسترعي الانتباه أن الجيش يتوارى عن تقديم إحصاءات رسمية بشأن عدد حالات الانتحار منذ مطلع عام 2025، معلناً أنه سيقدّم التقرير النهائي عند نهاية العام، غير أن البيانات التي استقتها صحيفة “هآرتس”، تشير إلى أن هذا العام شهد انتحار ما لا يقل عن سبعة عشر جندياً آخر أثناء الخدمة، وعلى الرغم من أن الزمان لم يزل فسيحاً حتى يطوي العام الميلادي الجاري صفحته، إلا أن أرقام الانتحار في صفوف جيش الاحتلال في الأشهر المنصرمة من عام 2025، قاربت بالفعل حصاد العام المنصرم بأكمله.
وعلى الرغم من هذه الحقائق الدامغة، ما برح جيش الاحتلال يتشبّث بموقفه معلناً أنه ليس في عجلةٍ من أمره للإقرار بوجود “موجة انتحار” أو منحنى تصاعدي لها، وقد شدّد في بيانه على ضرورة دراسة هذه الظاهرة على امتداد فترة زمنية، وبالتناسب مع حجم قوات الاحتياط في الجيش، وفي هذا المضمار، زعم مصدر عسكري أنه يتعذر ربط جميع الحالات بأحداث الحرب، إذ تبيّن من تمحيص كل حالة على حدة أن بعضها لا يمت للحرب بصلة، وبعضها يشمل جنوداً كانوا في خضم التدريب أثناء الخدمة، أو في مهام بالجبهة الداخلية.
وما يجدر ذكره أن إحصاءات الانتحار المعلنة لا تشمل الجنود الذين قطعوا خيط حياتهم بعد انقضاء خدمتهم بسبب الجروح النفسية العميقة التي نزفت في أعماقهم، وهذه هي النقطة الضبابية التي تومئ إلى أن معدلات انتحار الجنود الإسرائيليين، تتجاوز بمراحل الأرقام الرسمية المصرح بها، ويمكن الاستشهاد على ذلك بالتقرير الرسمي للجيش الإسرائيلي الذي أماط اللثام عن أنه في الفترة الممتدة من مايو 2024 إلى مايو 2025، خضع ما يربو على 3500 جندي للعلاج بسبب تصدع حالتهم النفسية، ونحو ألفي جندي آخر بسبب ردود فعل قتالية، كما كشفت دراسة أجرتها جامعة تل أبيب، النقاب عن أن قرابة 12% من جنود الاحتياط يرزحون تحت وطأة أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).
وفي خضم هذه الأزمة المستعرة، عزم جيش الاحتلال مؤخراً على مراجعة استمرار خدمة جنود الاحتياط الذين صنّفتهم شعبة إعادة التأهيل في وزارة الحرب بدرجة اضطرابات ذهنية تبلغ 30% أو تتجاوزها، وسيلزم هؤلاء الجنود بلقاء ضابط صحة نفسية يفصل في مدى أهليتهم لمواصلة الخدمة، وقد اتخذ هذا القرار في أعقاب كشف صحيفة “هآرتس” النقاب عن التوظيف واسع النطاق للمصابين باضطراب ما بعد الصدمة في صفوف قوات الاحتياط.
ففي شهر مايو، فضحت “هآرتس” في تقرير لها أن مئات الجنود المصابين بجروح نفسية، الذين أقرت شعبة إعادة التأهيل بعللهم، يتم استدعاؤهم للخدمة في قوات الاحتياط، وفي المقابل، تذرع جيش الاحتلال بأنه لا يملك سجلات معلوماتية عن جميع المصابين نفسياً الذين يخضعون للعلاج في قسم إعادة التأهيل، بل ادعى أنه إذا لم يفصح أحد أفراد الاحتياط عن حالته النفسية، فإنهم يظلون في عمى تام عن حاله، وأكدت إدارة شؤون الأفراد في الجيش وإدارة الصحة النفسية وإدارة إعادة التأهيل في وزارة الحرب آنذاك، أن مدى تفشي هذه الظاهرة - أي إصابة جنود الاحتياط بأعراض اضطراب ما بعد الصدمة - يظلّ مجهولاً وليس في حوزتهم إحصاءات بشأنها!
غير أن جانباً من تقرير “هآرتس” قوّض هذا الزعم، فقد اعترف كبار المسؤولين في إدارة شؤون الأفراد في الجيش، في حديثهم مع الصحيفة، بأن السلطات العسكرية كانت على دراية تامة بهذه الظاهرة مستشرية، لكنهم آثروا التغاضي عنها خشية أن يؤدي فحص جميع المصابين بأمراض نفسية، إلى فتح “صندوق باندورا” وتسريح العديد من جنود الاحتياط.
وكما أسلفنا القول، يواجه جيش الاحتلال الإسرائيلي الآن نقصاً حاداً في القوى البشرية بسبب التهديدات متعددة الأبعاد التي تحيط به من كل صوب، وقد يكون لضغط الرأي العام ووسائل الإعلام للإفراج عن الجنود الذين تتآكل نفوسهم - حسب إقرار المسؤولين العسكريين أنفسهم - تأثير بالغ على النسيج القتالي للجيش، لذلك، ليس من المستغرب أن يظل جيش الاحتلال يأبى الاعتراف بوجود “موجة انتحار” تعصف بصفوف جنوده، مفضّلاً وصف هذه الحوادث بأنها مجرد “حوادث عابرة” لا تشكّل ظاهرةً تستحق الوقوف عندها.