الوقت- في خضم المواجهات الإقليمية المتصاعدة، لم يعد بوسع الكيان الصهيوني إخفاء مظاهر العجز الاستراتيجي الذي يعانيه على مختلف الجبهات، فبينما يستمر في شن الحروب العدوانية وارتكاب المجازر بحق شعوب المنطقة، يتكشّف تدريجيًا حجم الفشل العسكري والسياسي الذي يلاحقه، خاصة في غزة ولبنان واليمن، حيث اصطدم بصلابة غير متوقعة من قوى المقاومة. لقد انتهى زمن التفوق المطلق للعدو، وباتت المقاومة تمتلك زمام المبادرة، مستخدمة أدوات ردع أكثر فاعلية مما توقعته تل أبيب. هذا التحول لم يكن لحظيًا، بل نتيجة تراكم نضالي طويل يكشف ضعف بنية الكيان، وعجزه عن فرض هيمنته، رغم دعم الغرب غير المحدود.
غزة... كسر الهيبة الأمنية وتفكك أسطورة الردع
تمثل غزة اليوم عقدة العجز الصهيوني بامتياز، فمنذ السابع من أكتوبر، تلقّى الكيان ضربة استراتيجية غير مسبوقة، حين تمكّنت كتائب القسام من شل منظومته الأمنية والعسكرية في لحظة مفصلية، هذه الضربة لم تكن مجرّد هجوم عابر، بل كشفت هشاشة العقيدة الأمنية الإسرائيلية، التي لطالما استندت إلى الردع الاستباقي والتفوق الاستخباراتي، ورغم الحصار الكامل وانعدام أي دعم خارجي، لم تنهزم المقاومة، بل تكيّفت بسرعة مذهلة مع ظروف الحرب، وطوّرت قدراتها بشكل جعل الاحتلال يدور في حلقة مفرغة من الردود العشوائية.
إن عجز الفرق العسكرية الإسرائيلية عن إنهاء المعركة، أو حتى تحقيق اختراق ميداني حاسم، يعكس مأزقًا عسكريًا حقيقيًا، زادت حدّته مع استمرار خسائر الجنود والمعدات، وتوسّع دائرة الاستنزاف. لقد أثبتت غزة، رغم محدودية الإمكانات، أنها كابوس دائم للمؤسسة العسكرية الصهيونية، وأن امتلاك الإرادة والتنظيم يوازي -وربما يفوق- امتلاك التكنولوجيا والعتاد، وانتهى الأمر بأن باتت "إسرائيل" تُقاتِل من أجل "الخروج الآمن" لا من أجل "النصر الحاسم".
انكسار الهيمنة وتبدل قواعد الاشتباك
في لبنان، فشل الاحتلال في فرض معادلة ردع جديدة على حزب الله، رغم الاستهداف المستمر ومحاولات التصعيد، فقد أثبتت المقاومة اللبنانية، بمرونتها وانضباطها، أنها قادرة على امتصاص الضربات، وإبقاء جبهة الجنوب فاعلة دون الانجرار إلى مواجهة شاملة، والأهم أن فكرة نزع سلاح حزب الله، التي يتغنى بها العدو، لن تنجح، ما يشير إلى رسوخ مكانة المقاومة كثابت وطني لا يمكن تجاوزه.
أما إيران، فقد دخلت مع الاحتلال في اختبار غير تقليدي، فاجأت فيه الجميع بقدرتها على استهداف مواقع حساسة بدقة عالية، وفرضت عليه معادلات ردع جديدة باستخدام صواريخها البعيدة المدى، وما طلب "نتنياهو" لوقف إطلاق النار عقب استهداف منشآت نووية إيرانية، إلا اعتراف ضمني بالفشل، فمحور المقاومة بات يمتلك أدوات المبادرة، ويفرض على العدو تغيير قواعد الاشتباك رغماً عنه، لم يعد الكيان الصهيوني هو الطرف الذي يُحدد متى وأين تبدأ المعركة، بل أصبح في موقع دفاعي، يُجبر فيه على الردّ، وغالبًا تحت الضغط والارتباك والتكلفة السياسية.
اليمن... الصعود الهادئ لقوة بحرية أربكت الغرب وتل أبيب
رغم بُعد الجغرافيا وتواضع الإمكانات مقارنة بالقوى الكبرى، دخلت اليمن ميدان الصراع مع الكيان الصهيوني بثقة متصاعدة وإرادة صلبة، فقد أثبتت القوات المسلحة اليمنية أن الجغرافيا ليست عائقًا أمام الفعل الاستراتيجي، حين استطاعت بقدرات محلية خالصة استهداف مصالح الكيان الإسرائيلي في البحر الأحمر، محدثة اضطرابًا حقيقيًا في حركة الملاحة الدولية.
هذه الهجمات الدقيقة، التي نُفّذت ضمن إطار دعم القضية الفلسطينية، لم تكن رمزية أو إعلامية فقط، بل أحدثت نتائج ميدانية ملموسة أجبرت الشركات العالمية على تغيير مسارات سفنها، وأوقعت خسائر اقتصادية ضخمة، لم تقتصر الصدمة على تل أبيب فحسب، بل امتدت إلى العواصم الأوروبية، التي وجدت نفسها عاجزة أمام قدرة صواريخ اليمنيين على تجاوز أنظمة الدفاع المتطورة، وضرب أهداف بحرية حيوية. وهكذا تحوّلت اليمن من دولة تعاني الحرب والحصار، إلى قوة إقليمية فاعلة تُجيد استخدام أوراق الضغط الإستراتيجي ضد أعدائها، لقد أظهرت صنعاء أنها ليست مجرد طرف متضامن، بل فاعلاً مباشراً في معادلة الردع، وهذا الصعود الصامت واليومي فرض واقعًا جديدًا في البحر الأحمر، وأربك تل أبيب وواشنطن وحلفاءهم، الذين باتوا يتعاملون مع اليمن كرقم صعب لا يمكن تجاهله في أي معادلة تخص الأمن البحري أو مستقبل الهيمنة الغربية في المنطقة.
في النهاية، لقد أصبح من الواضح أن الكيان الصهيوني فقد زمام المبادرة في أغلب الجبهات، ولم تعد "إسرائيل الكبرى" سوى وهْم يتآكل أمام صمود محور المقاومة، من غزة إلى لبنان، ومن إيران إلى اليمن، تتوالى الضربات التي تفكك المشروع الصهيوني، وتضعه أمام واقع جديد لم يتعود عليه: واقع الخوف والانكفاء والارتهان للضغوط الداخلية والخارجية.
إن ما نشهده اليوم ليس مجرد إخفاق عسكري، بل انهياراً تدريجياً لصيغة احتلال طالما تباهت بأنها لا تُقهر، والمطلوب الآن من شعوب المنطقة وأحرار العالم، هو تكثيف الدعم للمقاومة، وعدم السماح بتحويل المأساة الإنسانية إلى ورقة نصر وهمي لمصلحة المحتل، النصر الحقيقي هو في بقاء المقاومة واقفة، لا في صمت المجتمع الدولي