الوقت- أثار تقرير صدر حديثاً عن منظمة العفو الدولية ضجة كبيرة في الأوساط الحقوقية والسياسية، بعد أن كشف عن سلسلة من الانتهاكات الخطيرة التي طالت نساء وفتيات من الطائفة العلوية في سوريا، من اختطاف وعنف جسدي إلى زواج قسري وابتزاز مالي، وفي ظل هذه الانتهاكات، تتهم المنظمة السلطات السورية بالتقاعس عن التحقيق أو اتخاذ خطوات فعالة لوقف هذه الجرائم.
خلفية النزاع والسياق الطائفي
تشهد سوريا منذ عام 2011 صراعاً متعدد الأبعاد، اتخذ في بعض مراحله طابعاً طائفياً، وخاصةً بعد انخراط الطائفة العلوية في أجهزة النظام، ورغم سقوط النظام نهاية عام 2024، لم تُفضِ التغييرات السياسية إلى استقرار حقيقي، بل أدت إلى فراغ أمني في بعض المناطق، وخصوصاً الساحلية منها، حيث تتمركز الطائفة العلوية.
في هذا السياق، باتت النساء والفتيات العلويات هدفاً لعمليات انتقامية ممنهجة أو جرائم فردية ذات طابع طائفي، وسط عجز واضح من السلطات عن تأمين الحماية، ما أدى إلى شعور عام بالخوف والاضطراب داخل المجتمعات العلوية.
تفاصيل التقرير الحقوقي
في تقريرها الصادر أواخر يوليو 2025، كشفت منظمة العفو الدولية عن توثيقها ما لا يقل عن 36 حالة اختطاف لنساء وفتيات علويات، تتراوح أعمارهن بين 10 و40 عاماً، منذ فبراير الماضي، في محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص وحماة، وذكرت أن ثماني حالات على الأقل تم توثيقها ميدانياً عبر مقابلات مع أقارب الضحايا وشهود عيان.
وتحدث التقرير عن استخدام الخاطفين لأساليب ترهيب متعددة، منها الضرب، والتهديد بالقتل، والمطالبة بفدية مالية وصلت إلى 14 ألف دولار، إضافة إلى الزواج القسري في بعض الحالات، كما وثقت المنظمة حالات أجبرت فيها فتيات قاصرات على الزواج بعد تعرضهن للخطف.
انتقادات للسلطات السورية
أبرز ما جاء في التقرير هو اتهام السلطات السورية بالتقاعس عن التحقيق في هذه الجرائم، وأشارت العفو الدولية إلى أن الأجهزة الأمنية تجاهلت البلاغات المقدمة من أسر الضحايا، بل في بعض الحالات ألقت اللوم على العائلات ذاتها بحجة "التقصير في الحماية"، كما لم يتم فتح تحقيق جنائي جاد في أي من الحالات التي تم الإبلاغ عنها.
هذا التقاعس الرسمي يثير تساؤلات حول مدى قدرة أو رغبة الحكومة المؤقتة على بسط الأمن وتطبيق القانون، وخصوصًا في المناطق التي يُفترض أنها تحت سيطرتها، كما يعيد إلى الواجهة قضية الإفلات من العقاب، التي لطالما كانت إحدى أبرز مشكلات النظام القضائي السوري.
ردود الفعل المحلية والدولية
أثارت هذه المعلومات ردود فعل واسعة، فقد طالبت منظمات حقوقية دولية بفتح تحقيق مستقل، بينما دعا ناشطون سوريون في الداخل والخارج إلى محاسبة المتورطين في هذه الجرائم، بغض النظر عن خلفياتهم السياسية أو الطائفية.
أما على المستوى الشعبي، فقد عبّر كثيرون من أبناء الطائفة العلوية عن خيبة أملهم من أداء الحكومة المؤقتة، التي كانوا يأملون أن تضمن أمنهم بعد سقوط النظام، وتناقل ناشطون عبر وسائل التواصل الاجتماعي شهادات لأسر فقدت بناتها دون أن تتلقى أي مساعدة فعلية من السلطات.
الانعكاسات الاجتماعية والنفسية
أدت هذه الحوادث إلى حالة من الذعر في الأوساط العلوية، وخصوصاً في المناطق الريفية، حيث قلّصت الأسر خروج بناتها من المنازل، بل امتنعت بعض الفتيات عن الذهاب إلى المدارس أو الجامعات، وتشير شهادات ميدانية إلى أن النساء بدأن يشعرن بأنهن مستهدفات فقط بسبب هويتهن الطائفية.
هذا الوضع قد يؤدي إلى نتائج اجتماعية خطيرة، منها تزايد حالات الزواج المبكر خوفاً من الخطف، وتعزيز الذكورية بوصفها "درع الحماية" في المجتمعات المحلية، وهو ما يهدد بتقويض أي تقدم سابق في مجال حقوق المرأة.
الحاجة إلى تحرك فعلي
تؤكد هذه الوقائع مجدداً على ضرورة قيام السلطات السورية، سواء في الحكومة المؤقتة أو الهيئات الأمنية والقضائية، بواجباتها في التحقيق، ومحاسبة الجناة، وضمان سلامة النساء، بغض النظر عن انتماءاتهن الطائفية.
كما يتحتم على المجتمع الدولي ممارسة ضغط أكبر على الأطراف المحلية السورية لضمان الالتزام بالمعايير الحقوقية، وتقديم دعم فني ولوجستي لهيئات التحقيق المستقلة.
في النهاية، إن ما جرى ويجري بحق النساء والفتيات العلويات في سوريا لا يمكن اعتباره مجرد أحداث فردية أو انعكاسات لفوضى أمنية، بل هو مؤشر خطير على استمرار الخطاب الطائفي والعنف المبني على الهوية، في ظل ضعف مؤسسات الدولة.
ولعل أولى خطوات الحل تكمن في الاعتراف بأن أي بناء لمستقبل سوري عادل وسلمي لا يمكن أن يتم دون إنصاف الضحايا، ومحاسبة المعتدين، وفرض حماية متساوية للجميع، بعيداً عن أي اعتبارات طائفية أو سياسية، فالعدالة هي الطريق الوحيد إلى المصالحة الحقيقية.