الوقت- أبو محمد الجولاني، الاسم الذي ارتبط طوال سنوات الحرب السورية بالتطرف المسلّح والهيمنة على مناطق الشمال السوري، بات اليوم في صدارة المشهد السياسي السوري بعد سقوط نظام بشار الأسد في أواخر عام 2024، الاسم الحقيقي للجولاني هو أحمد حسين الشرع، وقد بدأ مسيرته من رحم تنظيم القاعدة عبر تأسيس "جبهة النصرة" عام 2012، ثم تحوّل لاحقاً إلى "هيئة تحرير الشام"، وأعلن في 2017 انفصاله التنظيمي عن القاعدة.
في السنوات الأخيرة، أعاد الجولاني تشكيل صورته العامة وظهر بملابس مدنية بدلاً من الزي العسكري، وشارك في مقابلات إعلامية يتحدث فيها عن "الاعتدال" و"المرحلة الجديدة"، ممهّداً لتسويق نفسه كزعيم سياسي قادر على قيادة المرحلة الانتقالية في سوريا ما بعد الأسد.
سقوط دمشق وتحوّل المشهد السوري
مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والعسكرية في مناطق النظام، تقدّمت فصائل المعارضة المسلحة باتجاه العاصمة دمشق في أواخر عام 2024، بدعم غير مباشر من أطراف إقليمية ودولية سمحت بإضعاف خطوط دفاع النظام دون تدخل حاسم، وبشكل مفاجئ، دخلت هيئة تحرير الشام بقيادة الجولاني إلى دمشق، وسيطرت على مفاصل الدولة خلال أيام، وسط انهيار سريع لأجهزة النظام.
ترافق هذا الحدث مع إعلان الجولاني نفسه "زعيماً مؤقتاً لحكومة انتقالية"، وأطلق على نفسه اسمه المدني "أحمد الشرع" في محاولة لتقديم وجه جديد للمرحلة المقبلة، لكن ما بدا كتحرر من الديكتاتورية تحوّل بسرعة إلى مخاوف حقيقية من ولادة استبداد جديد تحت عباءة مختلفة.
حكومة الإنقاذ: اسم جديد لسلطة قديمة؟
في المناطق التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، تم تشكيل ما يُعرف بـ"حكومة الإنقاذ"، وهي جهاز مدني يُفترض أنه مستقل عن الهيئة العسكرية، لكن الواقع يكشف ترابطاً وثيقاً بين الطرفين، هذه الحكومة تدير الشؤون اليومية للمواطنين في إدلب ومحيطها، وتشرف على التعليم، والقضاء، والأمن، والإعلام، والاقتصاد.
العديد من الناشطين والمراقبين يرون أن هذه الحكومة مجرد واجهة مدنية لحكم أمني متشدد، يعتمد على السيطرة الفكرية والعقائدية، ويمنع التعددية السياسية أو المعارضة المنظمة، وقد وثقت تقارير حقوقية حالات اعتقال تعسفي، وملاحقة للنشطاء، وتضييق على النساء ووسائل الإعلام.
المجتمع الدولي بين الحذر والانفتاح المشروط
تباينت ردود الفعل الدولية على صعود الجولاني، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ما زالا يصنفان هيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية، ويرفضان أي تطبيع أو اعتراف رسمي بها، لكن في الوقت ذاته، ظهرت مؤشرات على وجود "ليونة تكتيكية" في التعامل مع الواقع الجديد، وخاصة إذا نجح الجولاني في الحفاظ على الاستقرار ومنع عودة التنظيمات المتطرفة مثل "داعش" أو القاعدة.
بعض التقارير تحدثت عن قنوات خلفية بين مسؤولين في الهيئة وجهات غربية، وخصوصاً مع تقديم وعود بتخفيف قبضة الحكم، وتشكيل مجلس مدني موسّع، وإشراك أطياف سياسية متعددة، لكن هذه الخطوات لا تزال محدودة، ولم تُترجم إلى تحوّل فعلي في طبيعة الحكم.
ردود فعل السوريين: من الأمل إلى الخوف
رغم سقوط الأسد، لم يشعر معظم السوريين بالفرح الكامل، فالكثيرون يخشون أن يتحوّل الحلم بالحرية إلى نسخة مشوّهة من الماضي، آلاف الناشطين والمثقفين والسياسيين الذين واجهوا نظام الأسد ، يجدون أنفسهم اليوم أمام سلطة جديدة تمنع النقد وتحتكر القرار.
في الداخل السوري، تزداد شكاوى السكان من انعدام الحريات، وتدهور الوضع المعيشي، وغياب رؤية واضحة لإعادة الإعمار أو المصالحة الوطنية، أما في الخارج، فقد تراجعت الآمال بالعودة الطوعية للاجئين، في ظل غموض المرحلة المقبلة واستمرار الخوف من القمع أو الاعتقال.
انتهاكات طائفية وممارسات إرهابية ضد العلويين والدروز
رغم محاولة الجولاني الظهور كزعيم وطني جامع، فإن ماضيه مليء بانتهاكات طائفية جسيمة استهدفت بشكل خاص الأقليات الدينية، مثل العلويين والدروز، في سنوات سيطرة جبهة النصرة وهيئة تحرير الشام على مناطق متعددة، نُفّذت عمليات قتل جماعي وتهجير قسري بحق مدنيين من الطائفتين، لا لشيء سوى لانتمائهم المذهبي، ففي ريف حماة مثلاً، شهدت قرى علوية اقتحامات دامية رافقها سلب للممتلكات، بينما تعرضت قرى درزية في إدلب والسويداء لمحاولات فرض أجندة دينية بالقوة، وإجبار السكان على تغيير معتقداتهم أو مغادرة بيوتهم.
مستقبل سوريا في ظل حكم الجولاني
تشير التقديرات إلى أن الجولاني يسعى إلى تحويل سيطرته العسكرية إلى شرعية سياسية من خلال تشكيل حكومة مؤسساتية مدنية، وتخفيف المظاهر الإسلامية المتشددة، وتبنّي خطاب "وطني" بدلاً من الجهادي، لكنه يواجه تحديات ضخمة، أهمها:
-فقدان الثقة من المجتمع المدني.
-استمرار تصنيفه دوليًا كإرهابي.
-هشاشة الوضع الأمني والاقتصادي.
-رفض فصائل معارضة أخرى لهيمنته.
المجتمع الدولي أيضاً منقسم: فبينما تدفع بعض الدول نحو القبول بالأمر الواقع والضغط على الجولاني للإصلاح، ترفض أخرى أي تطبيع قبل تفكيك الهيئة وتحقيق انتقال ديمقراطي فعلي.
فاجعة وطن في مأزق البدائل
فاجعة الجولاني ليست فقط في صعود شخصية مثيرة للجدل إلى قمة السلطة، بل في ما تعنيه من تكرار مأساة السوريين مع نموذج حكم لا يضمن الحريات ولا التعددية، سوريا اليوم في مفترق طرق: إما استنساخ الاستبداد بقناع جديد، أو فتح الباب أمام حوار وطني حقيقي يتجاوز الماضي ويؤسس لمستقبل يشارك فيه الجميع.
يبقى السؤال مفتوحاً: هل يمكن لجيل الثورة السورية أن يصمد في وجه "البديل الزائف"، أم إن الخلاص من الأسد سيكون بداية لدوامة قمع جديدة؟