الوقت- في تطور لافت على الساحة الإقليمية، شكّل التهديد الصادر عن مهدي المشاط، رئيس المجلس السياسي الأعلى في اليمن، نقطة تحول لافتة في التوازنات الأمنية بالنسبة لـ"إسرائيل"، ففي الوقت الذي لا تزال فيه أنظار العالم تتجه إلى التصعيد العسكري في غزة والضفة الغربية، برزت جبهة التهديدات اليمنية التي تجاوزت العمل العسكري إلى ضرب المصالح الاقتصادية في عمق الكيان الإسرائيلي.
دعوة المشاط الشركات الدولية لمغادرة الأراضي الفلسطينية المحتلة لم تكن مجرد تصريح سياسي عابر، بل حملت في طياتها إشارات واضحة إلى قدرة محور المقاومة على الانتقال من الحرب التقليدية إلى ضرب مفاصل الاقتصاد الإسرائيلي.
المقال التالي يقدم قراءة تحليلية لأبعاد هذا التهديد، وانعكاساته على الداخل الإسرائيلي، ودلالات الحراك اليمني المتسارع، بالإضافة إلى مآلات الاصطفافات الإقليمية التي قد تتشكل في ضوء هذه المتغيرات المتسارعة.
الاقتصاد الإسرائيلي في مرمى النار
يُظهر تهديد مهدي المشاط تحولًا استراتيجيًا في أدوات الصراع بين محور المقاومة والكيان الإسرائيلي، حيث لم يعد التهديد محصورًا في الميدان العسكري، بل توسع ليشمل الجبهة الاقتصادية، التصريح الذي دعا فيه الشركات الأجنبية إلى مغادرة "إسرائيل" لم يكن من باب التحريض فحسب، بل حمل رسالة عملية مفادها بأن المصالح الاقتصادية أصبحت أهدافًا مشروعة في معادلة الردع الجديدة، هذا التحول يُقرأ في سياق متكامل من الهجمات التي طالت مؤخرًا مواقع استراتيجية إسرائيلية، مثل مطار بن غوريون، والتي أكدت أن القوات اليمنية تمتلك من القدرات اللوجستية والتقنية ما يمكنها من تجاوز حدود اليمن الجغرافية والتأثير فعليًا في العمق الإسرائيلي.
تركيز الخطاب على الشركات الأجنبية تحديدًا يشير إلى وعي تام بأهمية هذه الكيانات في دعم الاقتصاد الإسرائيلي واستقراره، بالتالي، فإن تهديدها لا يعني فقط زعزعة الاستثمار الأجنبي، بل يُعد استهدافًا مباشرًا للمكانة الاقتصادية لـ"إسرائيل" إقليميًا ودوليًا.
هذه المقاربة الجديدة تضع تل أبيب أمام معضلة مزدوجة: حماية الجبهة الداخلية من الهجمات العسكرية، والحفاظ على ثقة المستثمر الأجنبي الذي بدأ يشعر بعدم الأمان في بيئة يُفترض أنها تحت سيطرة تامة.
أنصار الله من الجغرافيا اليمنية إلى العمق الإسرائيلي
منذ انخراطها في الصراع الإقليمي، استطاعت حركة أنصار الله أن تتحول من قوة محلية متمركزة في اليمن إلى فاعل إقليمي يفرض نفسه في معادلة التوازنات في الشرق الأوسط، ولعل التهديد الذي أطلقه مهدي المشاط بشأن استهداف الشركات الأجنبية في الأراضي المحتلة يؤكد أن الحركة باتت تتحرك في إطار إستراتيجي متقدم يتجاوز مجرد الرد على العدوان السعودي أو الدفاع عن السيادة اليمنية.
في هذا السياق، يُنظر إلى أنصار الله كجزء فاعل في محور المقاومة، وهو ما يُضفي على تهديداتها طابعًا عمليًا وليس مجرد استعراض إعلامي، تزامن هذه التهديدات مع عمليات نوعية – كضربات بالصواريخ والطائرات المسيّرة – يعزز مصداقية التهديد ويُضفي عليه طابع الجدية، الأهم من ذلك، أن تطور القدرات التقنية لدى الحركة، وقدرتها على إيصال رسائل نارية إلى عمق الأراضي المحتلة، يدلل على تحوّل نوعي في قواعد الاشتباك، لقد باتت "إسرائيل" مضطرة اليوم إلى التعامل مع لاعب جديد غير تقليدي، غير محدود بجبهة جغرافية واحدة، ويستطيع التأثير على أكثر من مستوى، من الميدان العسكري إلى الاقتصاد، مرورًا بالرأي العام الدولي الذي يراقب بقلق انسحاب الشركات من بيئة استثمارية باتت غير مستقرة.
الإعلام العبري... قلق متصاعد وتقديرات متشائمة
التغطية التي قدّمتها وسائل الإعلام العبرية للتصريحات اليمنية كشفت حجم القلق المتنامي في الداخل الإسرائيلي، ولا سيما في الأوساط الأمنية والاقتصادية، من خلال متابعة التقارير الصادرة عن مواقع مثل "إيمِس" وشبكة "كان"، يتضح أن التهديدات لم تُتعامل كمجرد خطابات سياسية بل كتحذيرات واقعية تستوجب الاستعداد والتأهب، وصف التهديد بأنه "اقتصادي جديد" وتعبيرهم عن خشية من "ضربات أكثر حدة للاقتصاد الإسرائيلي" يُظهر أن التحليل الإسرائيلي يرى في التصعيد اليمني تهديدًا استراتيجيًا يفوق التقديرات السابقة. الإعلام العبري أشار أيضًا إلى بداية انسحاب بعض الشركات الأجنبية من الأراضي المحتلة، ما يعني أن الخطر انتقل من خانة التوقع إلى خانة التنفيذ العملي، وهذا الانسحاب، وإن كان محدودًا حتى الآن، يشكل مؤشرًا حساسًا على هشاشة ثقة المستثمرين الأجانب في قدرة "إسرائيل" على تأمين بيئة أعمال مستقرة في ظل تصعيد متعدد الجبهات، الأهم أن الإعلام العبري نفسه بدأ يروّج لاحتمال استمرار المواجهة مع أنصار الله لفترة طويلة، وهي سابقة في الخطاب الإعلامي الإسرائيلي تجاه اليمن، الذي لم يكن يُنظر إليه سابقًا كتهديد مباشر، هذا التبدل في النظرة يعكس إدراكًا متزايدًا لطبيعة المرحلة الجديدة من الصراع.
ختاماَ، في ضوء التهديدات الأخيرة الصادرة عن مهدي المشاط، بات واضحًا أن أنصار الله تجاوزوا حدود المواجهة التقليدية، ونجحوا في فرض معادلة ردع جديدة تستند إلى استهداف العمق الاقتصادي للكيان الإسرائيلي. التحول من الخطاب العسكري إلى الضغط على المصالح الأجنبية في الأراضي المحتلة يمثل نقلة نوعية في أدوات المواجهة لدى محور المقاومة، ويضع "إسرائيل" أمام تحديات غير مسبوقة، كما أن ردود الفعل الإسرائيلية، سواء عبر الإعلام أو المؤسسات الأمنية، تكشف عن إدراك حقيقي لخطورة هذا التصعيد وتبعاته طويلة الأمد.
في الوقت ذاته، لا يمكن تجاهل البعد الإقليمي والدولي لهذا التحرك، الذي قد يغيّر شكل الاصطفافات ويضغط على داعمي "إسرائيل" لإعادة النظر في استراتيجياتهم، يبدو أن ساحة الصراع لم تعد محصورة في الميدان العسكري فحسب، بل انتقلت إلى ميدان الاقتصاد والسيادة السياسية، وهو ما قد يعيد رسم ملامح الصراع في الشرق الأوسط خلال المرحلة القادمة.