الوقت- في واحدة من أبشع المجازر التي شهدها قطاع غزة منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي، فجر الأحد 1 يونيو/حزيران 2025، مجزرة مروعة بحق آلاف المدنيين الفلسطينيين الذين كانوا قد احتشدوا في منطقة "مواصي رفح" جنوب القطاع، في محاولة يائسة للحصول على طرود غذائية بعد شهور من الجوع والقصف والحصار، ما لا يقل عن 35 شهيدًا سقطوا برصاص وقذائف الاحتلال، وأكثر من 200 جريح، بينما فُقد عدد غير معروف من المواطنين، وسط مشهد دموي صادم أكدت تقارير ميدانية وحقوقية أنه كان متعمدًا ومخططًا له بعناية.
هذه المجزرة، التي وُصفت من قبل منظمات حقوقية بـ"جريمة إبادة تحت غطاء الإغاثة"، لم تكن الأولى من نوعها، لكنها الأكثر فتكًا ضمن سلسلة عمليات استهداف ممنهجة لنقاط توزيع المساعدات التي تديرها جهات أمريكية وإسرائيلية مشتركة، اللافت أن المجزرة وقعت تحت إشراف مباشر لما يُعرف بـ"الآلية الأمريكية-الإسرائيلية"، التي تم الترويج لها باعتبارها قناة لتسهيل إيصال الإغاثة الإنسانية لسكان غزة، لكنها باتت الآن تُتهم علنًا بأنها تحولت إلى أداة قتل جماعي.
مساعدات تحت إدارة مريبة
نقطة المساعدات في "تل السلطان" برفح كانت تديرها منظمة "مؤسسة غزة للإغاثة الإنسانية" (GHF)، وهي منظمة أمريكية أنشأها الاحتلال الإسرائيلي بالتنسيق مع واشنطن، ضمن آلية بديلة عن "أونروا" بعد أن حُجبت عنها التمويلات والدعم، هذه المنظمة، وفق شهادات شهود عيان وتقارير موثقة، تدير عملية توزيع المساعدات بطريقة تثير الريبة: كميات محدودة تُحضر إلى نقاط خطرة، ثم يُدفع عشرات الآلاف من المدنيين للقدوم إليها في وقت محدد، قبل أن يتم استهدافهم بالرصاص والطائرات والقذائف.
المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، الذي وثق الحادثة بشكل مباشر، أكد أن جنود الاحتلال أطلقوا النار وقذائف الدبابات على المدنيين، بالتزامن مع قنابل غاز أطلقها عناصر أمن تابعون للشركة الأمريكية التي تتولى تأمين الموقع، وتحدث المرصد عن استخدام طائرات "كوادكابتر" إسرائيلية مُسيّرة كانت تطلق نداءات عبر مكبرات الصوت توجّه المواطنين لكيفية الوصول إلى نقاط المساعدة، قبل أن تنقلب عليهم وتطلق النار، بهذا، لم يكن الضحايا مجرد متجمهرين عشوائيين، بل كانوا مدفوعين بترتيب مسبق إلى كمين مميت.
شهادات من الجحيم
الشهادات التي وردت من الناجين تصف فصولًا من جريمة وحشية منسقة بعناية، أحد الشهود قال: "كنا ننتظر منذ الثانية فجرًا عند دوار العلم، وسمعنا الطائرة تطلب منا عدم الاقتراب حتى السادسة صباحًا، لكن فجأة تقدمت أعداد من الناس، فبدأت الطائرة بإطلاق النار، ثم سقطت بعد أن اصطدمت بعمود، فبدأ القصف بقذائف مدفعية، هرع الناس للهرب، لكن عناصر أمن بالزي الأمريكي أطلقوا الغاز خلفهم، ليُحاصروا بين النيران والدخان والتدافع".
شهادة أخرى من "ف.ع" أكدت أن الناس رغم القتل والجوع ظلوا في المكان، وحين فُتحت البوابات الساعة السادسة صباحًا، كان هناك ثمانية "مشاطيح" فقط تحمل طرودًا غذائية لا تكفي لعُشر الحاضرين، وتقول: "حين اقتربنا من الطرود، بدأ الناس يتدافعون، لا نظام، لا عدالة، لا إنسانية، المساعدات لم تكن تكفي إلا لأقل القليل، وتمت مطالبتنا بالمغادرة، والعودة في الغد، وكأن حياتنا لا تساوي شيئًا".
سياسة ممنهجة.. الجوع كسلاح
وفقًا لمراقبين، فإن ما يحدث ليس حالة استثنائية، بل سياسة ممنهجة تتبعها "إسرائيل" منذ بداية الحرب: استخدام الجوع والحصار كسلاح لإخضاع السكان، المراكز التي تُقام لتوزيع المساعدات لا تُجهز لتوفير الكميات الكافية، بل تُصمم كمساحات استهداف يتم فيها توجيه الحشود إلى نقاط معينة، في توقيت معين، ثم يجري تفريقهم بالقوة المميتة.
رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني "حشد"، صلاح عبد العاطي، أدان بشدة المجزرة، مؤكدًا أن الاحتلال يحوّل مراكز توزيع المساعدات إلى "مصائد موت وفوضى وإذلال جماعي"، موضحًا أن الحصيلة منذ الـ 27 من مايو بلغت 49 شهيدًا و250 جريحًا، ووصف عبد العاطي الآلية بأنها "توظيف مجرم لسلاح المساعدات" ضد الجوعى، داعيًا إلى إنهاء هذه الآلية فورًا وتسليم المهمة للأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.
من جانبه، قال أستاذ القانون الدولي محمد مهران، عضو الجمعيتين الأمريكية والأوروبية للقانون الدولي، إن ما جرى هو "جريمة حرب مكتملة الأركان"، لأن القانون الدولي يُلزم القوات المحتلة بتوفير الغذاء والرعاية الطبية، ولا يسمح أبدًا بتحويل المساعدات إلى أدوات قتل.
ويؤكد مهران أن المادة 55 من اتفاقية جنيف الرابعة تُحمّل إسرائيل مسؤولية توفير الإمدادات الغذائية والطبية للسكان المحتلين، مضيفًا إن استخدام التجويع كأداة حرب، واستهداف المدنيين في أثناء حصولهم على المساعدات، يُعد جريمة ضد الإنسانية بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ويقول: "نحن أمام سلوك ممنهج، لا حادث عرضياً، هناك نية، وتخطيط، وتنفيذ، ما يعني بالوضوح أن الأمر يرتقي إلى جريمة إبادة جماعية".
التقنية الحديثة في خدمة القتل
اللافت في مجزرة رفح، كما يقول مهران، هو استخدام التكنولوجيا الحديثة — من طائرات مسيّرة مزودة بمكبرات الصوت، إلى أنظمة التعرف على الوجه والبيانات البيومترية — في إدارة عمليات التوزيع، ما يجعل من هذه العملية الإغاثية أداة استخباراتية وأمنية خطيرة، وليست وسيلة إنسانية.
ويحذر مهران من أن هذه الممارسات تمثل اختراقًا لأبسط معايير العمل الإنساني التي تُشدد على الحياد، والاستقلال، وعدم التسييس، موضحًا أن تقارير أممية عديدة رفضت التعاون مع هذه الآلية منذ انطلاقها، وحذرت من عواقبها الأمنية والإنسانية.
ورغم فداحة الجريمة، إلا أن التغطية الإعلامية الغربية لما جرى في رفح بقيت خجولة، بل شبه معدومة، كما هو حال معظم المجازر التي ارتُكبت في غزة على مدار الشهور الماضية، في المقابل، تستمر الإدارة الأمريكية في الترويج لجهودها "الإنسانية" المزعومة، بينما تُشارك فعليًا، وبالزي الرسمي، في عمليات القتل.
حتى الآن، لم يصدر موقف حازم من المؤسسات الدولية الكبرى كالأمم المتحدة، أو الدول الأوروبية التي ترفع شعار "حقوق الإنسان"، رغم أن الصور والفيديوهات التي خرجت من موقع المجزرة أظهرت جثث الأطفال والنساء على الأرض، والدماء تختلط بالطرود الغذائية، والذعر في وجوه الناجين الذين لم يكن لهم ذنب سوى أنهم أرادوا كيسًا من الأرز أو القليل من الطحين.
من سيوقف المجازر؟
ما جرى في "مواصي رفح" ليس مجرد "حادث مؤسف"، بل هو تجسيد صارخ لإرادة القتل الجماعي، استخدام الجوع، والقنص، وقنابل الغاز، تحت مظلة "المساعدات" هو خرق لكل ما تعنيه الإنسانية من معنى، وهي سياسة تثبت أن الاحتلال الإسرائيلي لم يكتف بالقصف من الجو والبر، بل يبحث الآن عن وسائل أكثر خُبثًا وفعالية لإبادة الفلسطينيين: تحويل الحاجة إلى فخ، والمعونة إلى فوهة بندقية، والمساعدة إلى مجزرة.
المطلوب اليوم ليس فقط الشجب والاستنكار، بل تحرك قانوني ودبلوماسي عاجل، يجب على الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف، وعلى المحكمة الجنائية الدولية، أن تفتح تحقيقًا رسميًا في هذه الجريمة وسابقاتها، وأن تُقدّم المسؤولين عنها — سياسيين وعسكريين — للمحاسبة، كما يجب على المنظمات الإنسانية أن ترفض الانخراط في أي آلية لا تستوفي الشروط القانونية والأخلاقية للعمل الإنساني.
في رفح، كان الجوعى ينتظرون الخبز، فاستقبلهم الرصاص، كانت الأمهات تبحث عن حليب لأطفالهن، فاستقبلتهن قذائف المدفعية، كانت "المساعدة" التي وعدتهم بها أمريكا و"إسرائيل"، مصيدة معدّة بإتقان لتقتلهم بلا رحمة، ولا تزال المجزرة مستمرة.