الوقت - تکشف تقارير أجهزة المخابرات الصهيونية في الآونة الأخيرة، النقاب عن هواجس متعاظمة تساور الكيان إزاء تنامي القوة العسكرية المصرية، وتتزامن هذه التقارير مع ما خلفته حرب غزة من تصدع غير مسبوق في العلاقات بين القاهرة وتل أبيب، ما أثار تساؤلات جوهرية حول مصير معاهدة السلام التي أبرمت عام 1979، حتى غدا الصهاينة يرون في تعاظم القدرات العسكرية المصرية، شبح خطر محدق يتربص بأمنهم.
تنامي القدرات العسكرية المصرية: هواجس الكيان الصهيوني
تكشف التقارير الحديثة عن نهضة عسكرية مصرية، إذ أضحت القاهرة تصبّ جُل اهتمامها في تطوير ترسانتها الحربية وتحديث منظوماتها القتالية، فها هي مصر تمدّ يدها إلى أحدث ما جادت به التقنية العسكرية، مستحدثةً قدراتها الجوية والبحرية، ومعزِّزةً درعها الصاروخي.
وفي غمرة هذا التحول العسكري، يرنو الكيان الصهيوني بعينٍ ملؤها الريبة والقلق إلى هذا النهوض العسكري، رابطاً إياه بتأجج نيران التوتر المتصاعد على خلفية مأساة غزة والنزاعات الحدودية المستعرة.
وها هي أجهزة المخابرات الصهيونية تطلق صيحات التحذير المدوية، منذرةً بأن تعاظم القوة المصرية سيقلب موازين القوى في المنطقة رأساً على عقب، ما قد يفضي إلى زعزعة الاستقرار الهش، وتلمح تقاريرهم المتواترة إلى احتمال أن تشهر مصر سيف قدراتها العسكرية المتنامية في وجه الكيان الصهيوني، متخذةً منها رافعة ضغطٍ في المفاوضات المتعلقة بغزة وشتى القضايا الإقليمية المتشابكة.
تصاعد التوترات حول قضية غزة
في خضم سجل حافل بالصراع والحروب الضارية بين مصر والكيان الصهيوني، وتاريخ مثقل بوطأة الاحتلال للأراضي المصرية، برزت قضية غزة في الآونة الأخيرة لتتصدر مشهد التوتر المحتدم بين القاهرة وتل أبيب.
تتبوأ مصر، بما لها من ثقل دبلوماسي، موقع الصدارة في مساعي الوساطة المتعلقة بغزة، بيد أن الخلافات المستعرة بين الطرفين حول مصير القطاع ومستقبله، وما يتصل به من شؤون أمنية وإعمارية، قد أجّجت نيران التوتر وأذكت جذوته.
طالما خالج المصريين هاجس قلق من أن يكون الهدف النهائي للكيان الصهيوني من حربه الضروس على غزة، هو تنفيذ مخطط التهجير الجماعي للفلسطينيين نحو الأراضي المصرية.
وقد تجلى هذا الهاجس منذ اندلاع شرارة الحرب الأولى، فقد أطلق الناطق الرسمي لجيش الاحتلال في الأسابيع الأولى تصريحاً صادماً مفاده وجوب نزوح الفلسطينيين إلى مصر، ما استدعى رداً مصرياً حازماً.
وما انفكت وزارة الخارجية المصرية تجدّد في بياناتها المتواترة موقفها الصلب في الذود عن حقوق الشعب الفلسطيني، مستنكرةً بشدة أي خطوات إسرائيلية أحادية لإفراغ غزة من أهلها.
وقد جهر السيسي في خطاباته المتعددة برفضه القاطع لأي محاولة لتهجير سكان غزة قسراً إلى الأراضي المصرية، فأعلن في عام 2023 بلهجة حاسمة: "لن تفتح مصر حدودها صوناً لأمنها القومي، وأي مسعى لإخلاء غزة نحو سيناء أمر مرفوض جملةً وتفصيلاً".
لقد لاذ قرابة مئة ألف فلسطيني بمصر إبان الحرب، غير أن هواجس مصر من نزوح جماعي لما يربو على مليوني نسمة من أهل غزة، بلغت ذروتها عقب توجيه جيش الاحتلال ضرباته نحو مدينة رفح.
العدوان الإسرائيلي على الجانب المصري من معبر رفح، أودى بحياة جندي مصري في اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال على الحدود، فردّت مصر بتعزيز تدابيرها الأمنية وتكثيف حضورها العسكري على حدود غزة، عبر نشر المزيد من القوات وتحصين الجدران الحدودية، وهو ما عدّه الكيان الصهيوني خرقاً لمعاهدة السلام المبرمة عام 1979.
تبددت مخاوف القاهرة مؤقتاً مع إخفاق المخطط العسكري الصهيوني وقبول المحتلين الانسحاب من غزة ضمن اتفاق وقف إطلاق النار، إلا أن تصريحات ترامب الأخيرة التي اشترطت توطين الفلسطينيين في الدول المجاورة كمدخل لإعادة إعمار القطاع، قد أعادت إحياء الهواجس المصرية من جديد.
مبادرة مصر لإعمار غزة وتأهبها لمجابهة ضغوط ترامب
أبدى عبد الفتاح السيسي موقفاً حازماً في رفض فكرة تهجير سكان غزة، مؤكداً بلهجة لا تقبل التأويل ضرورة إعادة بناء القطاع مع بقاء أهله في أرضهم، فقد وصف الرئيس المصري أي محاولة للتهجير القسري بأنها "ظلم صارخ" يأباه الضمير، مشدداً على أن مصر لن تكون يوماً شريكةً في مؤامرةٍ تنال من أمنها القومي.
وفي مواجهة المقترح الأمريكي، تنكب مصر على بلورة رؤية بديلة لإعادة إعمار غزة تصون كرامة أهلها في أرضهم، وتتجلى معالم هذه الرؤية في إقامة ملاذات آمنة تحتضن مساكن مؤقتة ريثما تكتمل عملية الإعمار، مع استنهاض همم الأشقاء العرب والمجتمع الدولي لحشد الدعم المالي واللوجستي اللازم.
ويؤكد المشروع المصري-العربي بوضوح أن السلطة الفلسطينية هي الخيار الوحيد المعتمد لإدارة شؤون غزة في مرحلة ما بعد الحرب والإشراف على نهضتها العمرانية، ولا ترى القاهرة بديلاً عن هذا النهج.
بيد أن ترامب، متجاهلاً هذا الموقف الراسخ، يتباهى بثقته في أن القيادة المصرية ستذعن في نهاية المطاف لمخططه، وكان قد وصف السيسي إبان ولايته الأولى بـ"ديكتاتوره المفضل"، وأفصح مؤخراً للإعلام عن صداقته به، في إشارة جلية لمساعي البيت الأبيض لممارسة الضغط على القاهرة، وفي السابع والعشرين من يناير، صرح ترامب مشيراً إلى السيسي: "لقد أغدقت عليه العطاء، وأرجو أن يرد الجميل".
تتلقى مصر سنوياً ما يناهز المليار وثلاثمئة مليون دولار كمعونات عسكرية من الولايات المتحدة، كما تحظى بنصيب وافر من المساعدات الاقتصادية والتنموية الأمريكية، وقد استثنى البيت الأبيض مصر، جنباً إلى جنب مع الكيان الصهيوني، من قرار تجميد المساعدات الخارجية البالغة 60 مليار دولار سنوياً تحت مظلة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وليس خافياً أن وقف هذه المعونات يمثّل أول سهام الضغط من قبل واشنطن.
تنويع مصادر التسلح وتحديات المشهد الدفاعي
لئن كانت المعونات الاقتصادية الأمريكية لمصر محدودة النطاق، فإن تعليقها يلقي بظلال قاتمة على حكومة السيسي، في خضم تذمر شعبي متصاعد جراء أزمة اقتصادية عاصفة وتضخم جامح، تفاقمت وطأتهما بفعل نيران الحرب المستعرة في غزة، وما أفضت إليه من شلل شبه تام في شريان الملاحة بالبحر الأحمر.
ومع أن مصر قد تستطيع الصمود في وجه العواصف الاقتصادية، مستندةً إلى تأييد جماهيري راسخ لموقفها الصلب من مخطط ترامب، إلا أن المعونات العسكرية الأمريكية تظل حجر الزاوية في معادلة الأمن القومي المصري، ويتجلى ذلك بوضوح حين نتأمل خارطة التحديات المحدقة بمصر، حيث تتربص بها مخاطر استراتيجية في مناطق نائية يتعذر على قواتها البرية الوصول إليها بالوسائل التقليدية.
وتتمثل هذه المخاطر في الملف الإثيوبي، وأمن جنوب البحر الأحمر، والمسألة الليبية، ناهيك عن الاضطرابات المحتملة في ساحة المواجهة بين الكيان الصهيوني ومحور المقاومة، ويرى القادة العسكريون في القاهرة أن درء هذه المخاطر يستلزم بناء قوة ضاربة بعيدة المدى، فائقة التطور، عالية الكفاءة.
غير أن استطالة أمد الحرب الضروس في غزة، وما يلوح في الأفق من نزعات توسعية صهيونية في سوريا ولبنان والضفة الغربية، مقرونةً بالدعم الأمريكي السافر لمخطط تهجير أبناء فلسطين إلى سيناء، وظهور نذر المواجهة على الحدود بين الجيش المصري وقوات الاحتلال الصهيوني، كل ذلك جعل التفوق العسكري والجوي للكيان هاجساً يؤرق صناع القرار في القاهرة.
يتجلى المبدأ الراسخ في معاملات السلاح الأمريكية في غرب آسيا وشمال أفريقيا، في صون التفوق العسكري الجوي الاستراتيجي للكيان الصهيوني على جيرانه، حيث يمثّل هذا النهج حجر عثرة في طريق النهضة العسكرية المصرية.
فلطالما جابهت القاهرة تعنتاً أمريكياً في رفض طلباتها المتكررة لاقتناء منظومة الرادار بعيد المدى "إيم-120" وصواريخ "أمرام" المخصصة لمقاتلات "إف-16"، وتشير المصادر إلى أن الكيان الصهيوني مارس ضغوطاً حثيثةً على إدارة ترامب، لصدّ مساعي مصر في اقتناء مقاتلات "إف-35" الشبحية عام 2019.
وامتدت ظلال هذا التضييق إلى فرنسا التي أحجمت - تحت وطأة الضغوط الأمريكية والصهيونية - عن تزويد مصر بصواريخ "إم بي دي إيه" جو-جو التي يبلغ مداها 100 كيلومتر، والمصممة خصيصاً لمقاتلات الرافال المصرية، ما حدا بالقاهرة إلى الاكتفاء بصواريخ "ميكا" ذات المدى 80 كيلومتراً، ضمن صفقة المقاتلات الأربع والعشرين من طراز يوروفايتر الإيطالية في عام 2021، والتي اكتنفتها شتى صنوف العراقيل والعقبات.
وإزاء هذه المعوقات، وجدت مصر نفسها مضطرةً للبحث عن آفاق جديدة لتحديث قواتها الجوية، وتكشف التقارير أن اتفاقية اقتناء مقاتلات "تشنغدو جي-10 سي" الصينية من الجيل الرابع والنصف، تأتي في صميم المساعي المصرية الحثيثة لتعزيز قدراتها الجوية.
لکن المشهد الراهن، في ظل تصاعد التوتر بين مصر والكيان الصهيوني حول مصير أهل غزة والضفة الغربية، وتنامي مخاطر الاحتكاك الحدودي على غرار الحوادث المتكررة إبان الحرب، يجعل إدراك المؤسسات الأمنية الصهيونية لتعاظم التهديد المصري - وإن لم يكن نذير حرب وشيكة - عاملاً مقوِّضاً لأسس معاهدة كامب ديفيد في خضم أجواء مشحونة بالتوتر.