الوقت- قال مرتضى سيمياري، الخبير في شؤون المقاومة، حول مراسم تشييع الشهيد نصر الله والوضع الراهن للجبهة اللبنانية:
في اليوم الخامس عشر من بداية حرب الـ33 يوماً، وصلت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك إلى بيروت، وتوجهت مباشرةً إلى مكتب نبيه بري. وضعت كوندوليزا رايس ورقةً على المكتب دون أي مقدمات، وقالت إن محتويات هذه الورقة هي شروط أمريكا لقبول استسلام حزب الله ونزع سلاحه. وبمجرد أن همّ بري بالتقاط الورقة لقراءتها، نهضت الوزيرة الأمريكية من مكانها وقالت للمسؤول اللبناني إن الاجتماع قد انتهى، وغادرت القاعة دون أي كلمة إضافية.
كتب نبيه بري في مذكراته أنه جلس لساعات في نفس الغرفة في صمت مطلق، يفكر في كيفية إيصال الرسالة الأمريكية إلى السيد حسن نصر الله!
في ذلك الوقت، اعتقد الأمريكيون أنه في غضون أربعة أسابيع، ومن خلال تنفيذ أربع عمليات ضربات وإجراءين تكميليين، سيتم القضاء على حزب الله بشكل كامل، وسيتم إزالته ليس فقط من المعادلة اللبنانية، بل من المشهد الإقليمي بأكمله. لكن تلك الخطة فشلت، وخرجت المقاومة اللبنانية من تلك المرحلة منتصرةً ومرفوعة الرأس.
بعد عملية الأربعين وقضية أجهزة النداء في بيروت، عاد التصور في غرفة القيادة الأمريكية والصهيونية إلى الاعتقاد بأنه يمكن هذه المرة، ليس خلال أربعة أسابيع بل في أقل من سبعة أيام، طرح خطة نزع سلاح حزب الله والقضاء عليه تحت مسمى "ليطاني بلس". في هذه المرحلة، استنفد الكيان الصهيوني كل الإمكانيات التي جمعها منذ عام 2006 في محاولة لشل المقاومة.
كان تصور الكيان الصهيوني أن حزب الله، بسبب فقدان القيادة الخلفية لقوات رضوان واستشهاد قادته الكبار، قد فقد توازنه النفسي والتنظيمي ولن يتمكن من إعادة بناء هيكله المتضرر. وقد عززت أمريكا هذا التوجه من خلال فتح جبهات متعددة وإثارة الفوضى في المنطقة، لكن في هذه المرحلة، منعت المقاومة الدامية والمنهكة لحزب الله من إثارة الفتنة مرةً أخرى، ودخل الطرفان في مرحلة وقف إطلاق النار، حيث لم يحصل العدو حتى على أوراق لعب بقدر ما حصل عليه في حرب الـ33 يوماً.
ولكن مع تشكل وقف إطلاق النار في لبنان وانتصار المقاومة، وُضعت خطة معقدة ضد حزب الله على الطاولة الأمريكية. في هذه المرحلة، ومع تحليل وقبول فرضية أن القضاء على المقاومة غير ممكن، حاولت أمريكا، من خلال الضغط على حكومة نواف سلام، إخراجها من شكل الحكومة المستقرة، وتحويلها إلى شركة متعددة الأغراض. في ذلك الوقت، كان مطلب البيت الأبيض تشكيل حكومة يكون موظفوها ذوي توجهات أمريكية بالكامل، وألا يكون للوزراء حتى انتماءات حزبية للأحزاب السنية والمسيحية.
في هذه الخطة، تم السعي لتعيين حتى المدراء المتوسطين والقضائيين والأمنيين من الأشخاص المؤيدين لنزع السلاح والقضاء على المقاومة. في ذلك الوقت، بدأ الأمريكيون في الترويج داخل مدينة بيروت لفكرة أن حياة الشعب اللبناني، ستكون أفضل من دون حزب الله والمقاومة! تم الترويج لهذه الفکرة من قبل السفارة، ووصل الأمر إلى حد تجهيز مستشفى كسروان في بيروت، للإيحاء بأن الرفاه الاجتماعي في لبنان سيصل إلى أعلى مستوياته مع قدوم ترامب. حتى بدأت المحاولات لإزاحة نبيه بري، للقضاء على إحدى آخر طبقات الدعم للمقاومة.
أدرك حزب الله في هذه المرحلة أن الحرب القادمة ليست مواجهةً عسكريةً، بل مجموعة من المواجهات ذات الطابع الاجتماعي والأمني، تهدف إلى القضاء على المقاومة من الداخل وليس من الخارج. في هذه المرحلة، أدى إجراء لامع من جانب المقاومة، إلى تشكيل طوفان ثانٍ ذي طابع شعبي.
وبعبارة أخرى، لم يسمح حزب الله، معتمداً على رأسماله الاجتماعي، للأمريكيين بتنفيذ خطة تحويل بيروت إلى "ضفة ثانية". بدأ هذا الطوفان في 26 يناير مع اندفاع الشعب لتحرير المناطق المحتلة، والذي كان مقدمةً للتشييع الكبير للشهيد السيد حسن نصر الله. كان لهذا الطوفان الاجتماعي عدة مراحل مميزة، منها إفشال مخطط الصهاينة للاحتلال الاستراتيجي لجنوب لبنان، الذي طالما حلموا به منذ عام 2006، ومن جهة أخرى كسر خط قطع اتصالات المقاومة، وكانت زيارة رئيس البرلمان في إيران إلى لبنان، الورقة الأخيرة في هذه اللعبة.
لعبت المقاومة في هذه الأيام بطريقة جعلت العدو، رغم ترتيباته الملحوظة في الأجهزة الأمنية، في موقف حرج واضطر للخروج من متاريسه. ولهذا الطوفان شواهد في طهران أيضاً، منها الكشف عن القيادة الجديدة لحماس في لقائها مع قائد الثورة في إيران، والذي يجب أن يُنظر إليه كأكثر من مجرد لقاء، حيث قدّم محمد إسماعيل درويش خط المقاومة الإسلامية للشهيد هنية خطوةً إلى الأمام وربطه بالإمامة. إن ارتفاع لافتة الأمة والإمامة هو مرحلة مهمة من الطوفان الاجتماعي في المنطقة مستقبلاً، وعلى هذه اللافتة يمكن رؤية عبارة جميلة للشهيد نصر الله تقول: "حتى لو اضطررنا، سنهاجمكم بفرقتنا الموسيقية".
