الوقت - عندما تدخل الدول العظمى في صراعاتها، تنعكس النتائج على الدول الأخرى، التي عادةً ما تكون ضحية هذه الصراعات. ولم تنجح دولة في فرض نفوذها دون أن يكون ذلك على حساب الآخرين. لكن إيران المتعاظم دورها، كسرت القاعدة التي رسخت التاريخ السياسي للدول ذات النفوذ، وقدمت نموذجاً لكيفية التعاظم وزيادة الدور، ولكن مع احترام حقوق الدول الأخرى ومصالحها. ولا شك ان العراق يمثل نموذجاً للسياسة الإيرانية الناجحة في ذلك. وهو ما يأتي مخالفاً للسياسة الأمريكية التي تقف في الطرف المقابل، حيث أنها لم تتعاظم إلا على حساب الشعوب والدول. فكيف نجحت إيران في التوفيق بين سياساتها الإستراتيجية الخارجية والتي أدت الى تعاظم دورها ونفوذها في المنطقة من جهة، والالتفات لمصالح الشعوب من جهة أخرى؟ وكيف أن أمريكا فشلت في ذلك؟ ولماذا يعتبر العراق نموذجاً؟
أولاً: قراءة تحليلية سريعة:
من يقرأ تاريخ العراق السياسي يجد أن جميع من حاول الهيمنة على هذا البلد العربي، بسبب ما يمتلكه من مقتدرات، سعى لضرب الدولة فيه، من خلال ضرب المركزية السياسية وتقسيم الجيش. لكن التاريخ المعاصر اليوم، أظهر أنه يمكن للدول التي يحق لها أن تسعى لزيادة نفوذها، وهو ما يشرعنه صراع القدرة، وبالتالي أن تتعاظم وتزداد نفوذاً، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول الداخلية. وهذا النموذج قدمته إيران ونجحت في إدخاله الى علم السياسة الدولية. وإن كان الكلام وصفاً فإنه حقيقةً وصف لواقع أرسته الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في ظل القيادة الحكيمة للسيد الخامنئي(دام ظله). فالقيادة الإيرانية تميزت بتبنيها لمبادئ أساسية مستمدة من الأسس التي أرسى معالمها الإمام الخميني(قدسره)، وبالتالي فإن وضوح الرؤية الإيرانية من الأساس، كانت السبب في نجاح سياسة إيران الخارجية، والتي يعتبر العراق بحساسية ودقة وضعه نموذجاً لها. بينما سياسة أمريكا الخارجية، لم تكن خفيةً على أحد. فمنذ أن خططت أمريكا لاستعمار المنطقة والسيطرة على مقدراتها، كانت تبني سياساتها على عقلية الاعتماد على التابع لها في المنطقة. وهذا ما يمكن إيجاده بالأداة الأمريكية الأهم في المنطقة وهي السعودية، ويأتي بعدها دول الخليج الفارسي. ولعل أهمية هذه الدول لأمريكا ليس بسبب عقلها الراجح أو سياستها الذكية، بل بسبب أموالها وخزانات النفط الموجودة لديها. إلي جانب أن أمريكا استطاعت أن تحكمها من الداخل قبل الخارج. لذلك عندما انهزمت أمريكا في العراق، انهزمت معها كل تلك الدول، وبالتحديد تلك التي كانت تشكل أداة السياسة الأمريكية الأساسية. والعراق الذي يعتبر مثالاً لنجاح الدول أو إخفاقاتها، كان السبب في إرضاخ أمريكا وأعوانها. وهنا يأتي الحديث عن دور إيران الذكي في العراق، والتي ساهمت في دعمه ضد المحتل الأمريكي، بعد سقوط النظام البعثي. ولم تكتف إيران بذلك بل قدمت له الدعم في ظل حربه الأخيرة على الإرهاب، وكانت السبب الأساسي في نجاحه في معركة تكريت. أما الطرف الأمريكي الذي كان بالنسبة للعراقيين محتلاً، فلن ينسى العالم جرائم قواته بحق الشعب العراقي، وبالتحديد في السجون. ولا يمكن تجاهل التقارير التي تحدثت عن أن قيام التحالف الذي تقوده أمريكا تحت عنوان القضاء على الإرهاب، كان في الحقيقة يهدف إلي بناء جغرافيا سياسية معينة، وفي العراق بالتحديد، من أجل تقسيمه لثلاث مناطق، وبالتالي فرض أمر واقع جيوسياسي، مما يساهم في زيادة الأوراق السياسية التي تملكها أمريكا في المنطقة.
ثانياً: إيران، نموذج القوة المحترم
يظن الكثيرون في علم الإستراتيجيا، أن القوة تكمن في استخدام القوة، لكن الحقيقة تقول إن القوة تكمن في كيفية إدارة القوة. هكذا نجحت إيران وبإدراكها حقيقة القوة، في إدراة الملفات السياسية المعقدة والمتنوعة، دون ظلم أحد أو سفك أي قطرة دم، أو التدخل هنا وهناك. فعلى عكس الطرف الأمريكي، تعاملت إيران مع من يؤمن بخطها ضمن منطق الحليف وليس التابع. والفرق شاسع بين المفهومين. فالحليف هو الطرف الذي يؤمن بك وتؤمن به، ويحترمك وتحترمه. أما التابع فهو الطرف الذي تعتبره أداةً لك ليس أكثر، ويمكن أن تبيعه وتشتري بثمنه ما تريد. وهذا ما نجحت أمريكا في ترسيخه، ضمن علاقتها مع ما تدعي أنهم حلفاؤها، والذين هم في الحقيقة ليسوا إلا أدواتها التنفيذية. فأمريكا التي طالما باعت أدواتها لضمان استمراريتها، شوهت أخلاقيات العمل السياسي. وبنت عقيدة السياسة الإستراتيجية التي تقوم على المصالح فقط، وعززت ما يمكن وصفه بالأنا السياسية. فكان أدواتها على شاكلتها، يطبقون أخلاقياتها المنحطة، وهكذا خسرت هي وخسروا معها. وهذا ما يمكن وصف حال السعودية ودول الخليج الفارسي به. بينما استطاعت إيران أن تقنع العالم بأسره، ومن خلال تجربة العراق المعقدة، أن للسياسة الدولية مبادئ، وأن للشعوب حقوقاً يجب أن تحترم. ولا شك أن العالم قد تعلم من إيران، أنه لا ذنب للشعب العراقي، إن كان نظامه الحاكم قد شن حرباً ظالمة على إيران في السابق. فإيران التي تمتلك قوةً عسكرية هائلة في المنطقة، لم تقصف جارها العراقي وتنتقم من نظامه البعثي السابق. والسبب الحقيقي في ذلك هو أن إيران ظلت راسخةً على مبادئها وقواعدها التي رسخها الرجل الذي كان السبب في بناء منظومة إيران القوية، أي الإمام الخميني(قدسره). وفي المقابل لا داعي للحديث عن سياسة أمريكا في العراق، فالجميع يعرف تاريخ أمريكا الحافل بالحقد والظلم للشعب العراقي. ولم ينس أحد حتى اليوم أفعال الأمريكيين في سجن أبو غريب. كما أن التقارير التي تحدثت عن أرباح جورج بوش الابن وديك تشيني بسبب الحرب الأمريكية على العراق تكفي. لكن الحديث عن إيران وإنجازاتها أهم، وبالخصوص في ظل انتزاع إيران للاتفاق النووي الذي يصب في صالح الجميع في المنطقة. وهنا يجب الالتفات لنقطتين من الإنجازات على الصعيد العراقي :
عززت إيران الوحدة العراقية، من خلال دعمها إدخال العشائر الى الجيش العراقي مما ساهم في نجاحه في معركة تكريت الأخيرة. كما أدى الى زيادة ثقة الشعب العراقي بقدراته، وقد تجلى ذلك في ردة الفعل العراقية، حين شعر العراقيون بأنهم أصحاب الانتصار على الإرهاب وبالتحديد في تكريت.
إستطاعت إيران أن تمنع فرض واقع تقسيم العراق الذي كانت أمريكا تسعى له، وهو ما أصبح معروفاً.
إذاً، قدمت إيران للعالم نموذجاً عن كيفية تطبيق السياسة الدولية، ضمن أخلاقيات ومبادئ راقية. ولا شك أن المدرسة السياسية يجب أن تدرس وبجدية هذا النموذج الراقي في فن السياسية الدولية. فهل هناك من يشك أن الزمن اليوم هو للمستضعفين في العالم، وبقيادة إيران؟