الوقت - مع إندلاع الأزمة السورية عام 2011 ودخول روسيا بشكل مباشر في أتون هذه الأزمة قبل أكثر من عام، ظهرت بوادر حرب باردة جديدة بين موسكو وواشنطن تختلف عن الحرب الباردة التي كانت بين الاتحاد السوفيتي السابق وأمريكا والتي إستمرت لأكثر من أربعين عاماً منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 وحتى إنهيار الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينات القرن الماضي.
وتجدر الإشارة إلى أن السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي طيلة فترة الحرب الباردة الأولى كانت مبتنية على التلويح بإمكانية إستخدام القوة العسكرية ضد أيْ دولة أو تحالف يهدد مصالحه في أيْ منطقة من العالم، ولكن بعد إنهيار الاتحاد تبدلت سياسة روسيا لتصبح تلفيقية ما بين القوة العسكرية والعامل الدبلوماسي، وكانت هذه السياسة تهدف في الأساس لإعادة التوازن في القوى ومواجهة النفوذ الغربي لاسيّما الأمريكي في العالم.
أمّا السياسة الخارجية الأمريكية في تلك الفترة فكانت مبتنية على عاملين أساسيين؛ الأول: إحراز التفوق العسكري على باقي القوى في العالم والاستفادة من الفرص الدبلوماسية المتاحة لتشكيل تحالفات مع دول أخرى لاسيّما الأوروبية، والثاني: توظيف إمكانات بعض البلدان لتحقيق أهداف عسكرية عن طريق شن"حروب بالوكالة" في العديد من مناطق العالم لاسيّما في الشرق الأوسط.
وتميّزت هذه الحقبة ببروز أحداث في غاية الأهمية كان لها الأثر المباشر في نمط العلاقات بين الطرفين، فانطلاقاً من أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، أصبح العالم يعيش مرحلة جديدة تختلف كلّياً عن المراحل السابقة ما دفع أمريكا لإكمال سياستها الرامية إلى السيطرة على العالم، مع ما يستوجب ذلك من أفعال وقائية وحروب إستباقية تندرج في هذا السياق.
وهكذا، ظلّت العلاقات الأميركية - الروسية خلال العقدين الأخيرين بين مدّ وجزر، إذ سعت واشنطن إلى الحفاظ على تفوّقها العسكري عن طريق تحديث قواتها وتسليحها والسعي إلى عدم ظهور قطب آخر ينافسها على الساحة الدولية.
وشهدت العلاقات الأميركية-الروسية توجهاً جديداً نتيجة التحوّل الذي طرأ على نوعية القيادة في كلا الطرفين، بالإضافة إلى رواسب الحرب الباردة وتداعياتها التي أثّرت في نظرة البلدين أحدهما تجاه الآخر. ومن الواضح بأن توجهات القيادتين قد إصطدمت في ما بينها ولم تلتقِ إلاّ في نقاط قليلة ونادرة، فكان التنافس والتوتر السمة المميزة للعلاقة بينهما، الأمر الذي دفع أطرافاً أخرى إلى الإستفادة من هذا الشكل في العلاقة، لاسيّما الاتحاد الأوروبي.
وتهدف كلا السياستان "الروسية والأمريكية" إلى تحقيق مكاسب كبيرة بأقل التكاليف. ولذلك برز منحى جديد لدى الطرفين يهدف إلى الابتعاد عن التوتر مع الطرف الآخر من ناحية، ويهيء الأرضية للتنسيق معه لتحقيق مكاسب مشتركة في مختلف المجالات من ناحية أخرى. وقد إتخذ هذا المنحى أشكالاً مختلفة يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
الأول: التفاهم الشامل؛ وأبرز مثال على ذلك التوصل إلى معاهدة تقضي بالحد من إنتشار الأسلحة النووية ومنظومات الدرع الصاروخية، وأخرى تنص على الإجراءات الرامية إلى الحد من الأسلحة الإستراتيجية الهجومية، بالإضافة إلى التدابير الرامية إلى تطوير التجارة وغيرها من العلاقات الاقتصادية.
الثاني: التعاون الضمني؛ وهو يعني قيام أحد الطرفين "الروسي أو الأمريكي" بإجراء معين في منطقة ما، فيما يقوم الطرف الآخر بدعمه أو التغاضي عنه وعدم إبداء أي ردّ فعل تجاهه في هذا المجال. وأبرز مثال على ذلك ما حصل عام 1991 عندما هاجمت القوات الأمريكية وقوات الدول الحليفة لها القوات العراقية لإخراجها من الكويت.
الثالث: التعاون النسبي أو الهش؛ وأبرز مثال على ذلك ما يحصل في الوقت الحاضر بين روسيا وأمريكا في المنطقة، وهو ناجم عن الشعور السلبي لأحد الطرفين تجاه الآخر، وانعدام الثقة بين الجانبين، ويمكن القول بأن إنهيار الهدنة مؤخراً في سوريا قد نجم عن هذا الاحساس، لشعور أمريكا بأن الهدنة تمنح روسيا الفرصة لأخذ زمام المبادرة في التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة السورية، في حين تعتقد روسيا بأن أمريكا هي التي أفشلت هذه الهدنة لأنها تصب في نهاية المطاف في صالح حكومة الرئيس السوري بشار الأسد المدعوم من موسكو والذي تطالب واشنطن بإزاحته عن السلطة.
وتجدر الإشارة إلى أن واشنطن تنظر لحكومة الأسد على أنها تمثل حجر عثرة في طريقها لإضعاف محور المقاومة الذي يتصدى للمشروع الصهيوأمريكي في المنطقة، كما تعتقد بأن الدعم الروسي لسوريا في ضرب مقرات ومواقع الجماعات الإرهابية في هذا البلد يرجح ميزان القوى لصالح موسكو في المنطقة، ولهذا عمدت أمريكا إلى الضغط على حكومة الأسد من خلال دعم أكراد سوريا لإقامة منطقة حكم ذاتي في شمال هذا البلد من جانب، وتوظيف ورقة "داعش" للتدخل في الشأن السوري بحجة محاربة الإرهاب من جانب آخر.
ولازالت موسكو تعتقد بأن أي تفاهم سياسي مع واشنطن بشأن الأزمة السورية لا يمكن الاعتماد عليه في الوقت الحاضر لأن الانتخابات الرئاسية الأمريكية على الأبواب، ومن غير المستبعد أبداً أن يتنصل خليفة أوباما عن أي إتفاقيات بهذا الشأن، سواء كان الفائز بالانتخابات مرشح الحزب الجمهوري "دونالد ترامب" أو مرشحة الحزب الديمقراطي "هيلاري كلينتون".
ومِمَا لا شكّ فيه، إنَّ المصالح الإستراتيجيّة لكل من أمريكا وروسيا تتقاطع في بعض المجالات، وتختلف في مجالات أخرى، لكن القاسم المشترك بينهما أنَّ القوتين حريصتان جدّاً على أن يكون لهما نفوذ قوي في سوريا، ذات الموقع المميّز والإستراتيجي، بهدف تعزيز مركزيهما الإقليميين، وتحويل موازين القوى لصالح كل منهما.
إذن فالأزمة السورية باتت مرتبطة بمسألة الصراع الأميركي- الروسي في المنطقة، مع ما يرافق ذلك من تقارب وتباعد وتناقض وتشابك بسبب كثرة المتغيّرات المؤثّرة في هذا الصراع، ما يعني أنّ نظام الهيمنة الأميركية بدأ يصطدم بعراقيل أساسية وقد يصل إلى طريق مسدود. وبمعنى آخر إنَّ الباب قد فُتح لانبثاق نظام دولي ثنائي القطبية تمثّل بدخول روسيا بقوة من البوابة السورية، ومحاولتها للحفاظ على مصالحها الحيويّة والإستراتيجية في الشرق الأوسط، تماشياً مع الأحداث والتطورات الأخرى في مختلف بقاع العالم.