الوقت- من حرق الشاب التونسي نفسه إلي إحراق الطيار الأردني مضت أربعة أعوام، وفيها وقعت أحداث كبرى. ذلك الحرق الأول كان بداية حركة تحول نحو الديمقراطية وإنهاء عقود من الدكتاتورية. ولكن الحرق الثاني أيضاً هو نتيجة حقيقية مرة أخرى هي انتشار نشاط الأصوليين في الشرق الأوسط وسط الفراغ السياسي والأمني في السنوات السابقة.
وبين هذين الحدثين، تلاشت العديد من الآمال، وقتل الآلاف وجرح عشرات الآلاف وتشرد الملايين، وعلى الرغم من كل هذه المعاناة والآلام، لم تصل القصة إلي نهاياتها والمأساة مازالت مستمرة.
العالم العربي الذي كاد من خلال حرق بائع خضار تونسي نفسه، أن يقدم علي أكبر خطوة له نحو الديمقراطية، ويضع حداً لسنوات طويلة من الاستبداد العسكري، بات اليوم في ظروف لعل كثير من العرب يحلمون فيها بعودة الدكتاتوريين.
كان السابع عشر من ديسمبر لعام 2010، عندما أحرق البائع المتجول التونسي محمد البوعزيزي نفسه أمام مبني بلدية مدينة "سيدي بوزيد"، فألقي بنار مزلزلة علي عروش الدكتاتوريين العرب.
والموجة التي بدأت بعد هذا الحادث، سرعان ما انتشرت في جميع أنحاء تونس، وفي أقل من شهر أسقطت دكتاتورية رئيس هذا البلد "زين الدين بن علي". ونجاح الاحتجاجات الشعبية في تونس، قد أحدث دومنيو في العالم العربي ونثر بذور الثورة في شعوب مصر وليبيا واليمن والبحرين والجزائر والمغرب وبعض الدول العربية الأخرى علي حكامها.
إلي أن انفلقت أخيراً القشرة الصلبة للدكتاتورية في الشرق الأوسط، واجتاحت موجة من التحول الديمقراطي في العالم العربي. والشوارع العربية التي كانت ساحة استعراض القوة من قبل الأفكار الأيديولوجية القومية العربية واليسارية، باتت تهتف بصوت عال شعار الديمقراطية والدفاع عن الحريات السياسية والاجتماعية.
وكان الجميع يظن أن الموجة الرابعة للديمقراطية بدأت تتحقق، ولكن المشهد قد انقلب سريعاً. فالتطورات التي كادت تتقدم بالشرق الأوسط العربي خطوة أساسية إلي الأمام في جميع المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تحولت إلي حريق مدمر في المنطقة كلها؛ الحريق المقرف للإرهاب التكفيري. وأصبح انعدام الأمن في العالم العربي اليوم ظاهرة لا يمكن إنكارها، وفي كل يوم يقتل ويجرح المزيد من الناس الأبرياء الذين يدفعون ثمن مطالبتهم بالتغيير.
وهنا يجب التريث قليلاً لنراجع مراجعة عامة ولكن دقيقة، أحداث السنوات الأربع الماضية، ونري لماذا إحراق النفس ذلك قد أدي إلي هذا الإحراق حياً وفي قفص حديدي؟
للإجابة لابد من اعتبار ظهور التكفيريين علامة على وجود مرض خطير؛ المرض الذي ستكون نتيجته المزيد من الحروب والقتل والكراهية الأعمق والعنف الأشد. ويجب دراسة جذور هذا العنف وإيجاد حل له.
ومن أجل معرفة جذور تحول الثورات العربية، يجب أن نلقي نظرة علي دور الجهات الخارجية في حرف هذه الثورات الشعبية، وأن نبحث عن جذور هذا المرض في التدخلات الأجنبية.
وبناءً على هذا النهج، فإنه يجب البحث عن نقطة البداية في نفوذ بعض الدول العربية إلي صفوف الثوار نتيجة المنافسات الإقليمية، وتدخل الدول الغربية في مسار الثورات الشعبية بهدف الحفاظ علي مصالحها، الأمر الذي أخرج الثورات العربية عن خطها وفتّت وحدة الناس وتكاملهم. وفي مثل هذه الأجواء تحولت البنية الاجتماعية القبلية للعالم العربي إلي مركب آمن لتنافس الحكام العرب وتدخل الحكومات الغربية.
وبعد دخول الجهات الخارجية إلى صفوف الثورات، انقسم الثوار السابقون إلى مجموعات مختلفة واصطفوا ضد بعضهم البعض. وفي هذه الأثناء توسعت الفجوات والثغرات، ووجد الفكر التكفيري مكاناً لاستعراض قوته. وعندئذ رأت الجهات الخارجية أن هذه الأفكار والمجموعات التي تحملها، هي أداة مناسبة للتغلب على المنافسين. فوضعت علي جدول أعمالها قراراً بدعمهم، وهكذا ترعرع التكفيريون ونموا وانتشروا.
ولكن سرعان ما تبددت تنبؤات الجهات الخارجية، وتحول التكفيريون إلي سيف ذي حدين، ومالت حافته الحادة نحو الداعمين السابقين. والجرائم التي وقعت قد أذهلت الجميع، وقد تكون هي نقطة البداية التي ستبيّن للجميع ما هو عمق المأساة.
واليوم بعد أن تبين أن التكفيريين لا يميزون بين الصديق والعدو، يجب التفكير في حل ناجع. فيجب أن تتغير النظرات وتترك الصراعات السياسية جانباً وتنتهي المنافسات السياسية المكلفة.
إن محاربة دوامة العنف التي تشكلت في العالم العربي، لا سبيل إليها سوي التزام دول المنطقة بشكل كامل بحل هذه المشكلة وخروج الغرب من هذا الملف. واليوم إذا لم يتم التفكير الجاد لإيجاد الحل المناسب، فإن على الجميع أن يدفع الثمن غداً.