الوقت- ليس خافياً على أحدٍ الدور الكبير لامريكا في إشعال وزيادة الأزمة الروسية - الأوكرانية. فالصراع المحتدم بين الدولتين الروسية والأمريكية ليس بجديد، بل بدأ منذ خمسينات القرن الماضي. أما أثره على دول المنطقة، فهو محور نقاشٍ دائم، وبالتحديد ما يتعلق بدول الإتحاد الأوروبي. فكيف كانت دول الإتحاد الأوروبي ضحية هذا الصراع؟ وما هو الثمن الذي تدفعه؟ وكيف تستخدم امريكا، دول الإتحاد الأوروبي، كأداةٍ سياسية لها؟
أولاً: الصراع التاريخي الأمريكي – الروسي، وأوروبا الأداة الأمريكية:
لا شك أن منطقة الشرق الأوسط، شكلت منذ خمسينات القرن الماضي، منطقة تنافس شديد بين روسيا (الاتحاد السوفيتي سابقا) و امريكا، فانتهاء "الحرب الباردة" بين الطرفين، لم يسفر عن أي تغيير ملحوظ في هذا الميدان، بل وشهدت المواجهة الروسية الأمريكية تصعيدا جديداً، مع اقتراب عهد الهيمنة الأميركية من نهايته. فقد أحدث انهيار القطبية الثنائية في العالم، مرفقاً بانهيار إحدى القوى المركزية أي الاتحاد السوفيتي عام 1991 تغيرات في منطقة الشرق الأوسط بطبيعة الحال، غير أن امريكا، حتى بداية القرن الجديد ركزت جهودها الدبلوماسية والعسكرية على أوروبا أكثر منه على الشرق الأوسط وكان الهدف دوماً، استخدام الدول الأوروبية في سبيل المصالح الأمريكية. كيف؟
في الواقع، إنحصرت الأولوية السياسة للولايات المتحدة الأمريكية خلال تلك السنوات، في تقسيم ما ترك الاتحاد السوفيتي وراءه من وقائع جيوسياسية على الأرض. فصبَّت واشنطن مساعيها على جعل "الثورات المخملية" طريقا لا عودة منه، ومحاولة تفكيك حلف وارسو، وإزالة الاتحاد السوفيتي إلى الأبد، مما مهّد لاندماجٍ سريع لدول أوروبا الشرقية في حلف شمال الأطلسي (الناتو). في الوقت عينه، عمدت امركيا إلى تعزيز موقعها في نقطة إستراتيجية وهي شبه جزيرة البلقان. هذه العمليات بأكملها اكتملت في أواخر التسعينات وتحديدا في عام 1999 عندما دمرت يوغوسلافيا وأحكم الناتو قبضته، لأول مرة، على أقليم كوسوفو.
وبعد تأكد امريكا من استكمال عملية إعادة تجزئة أوروبا، سعت و حلفاؤها الغربيون، لنقل جهودها التوسعية إلى مناطق أخرى خاصة في منطقة الشرق الأوسط، حيث شرعت في ممارسة ضغوط متزايدة على دول المنطقة من خلال سياساتها وكل ذلك سعياً لتقسيمها.
فإلى حين سقوط نظام صدام حسين، أصبحت الآلة العسكرية الأمريكية غارقة في المأزق العراقي، وبدأ مع المأزق انسحاب امريكا الجيوسياسي من الحلبة الدولية. ثم تدهورت الأوضاع وبشكل حاد في أفغانستان رغم تواجد قوات التحالف الضخمة في هذا البلد، واحتدم الصراع بين موسكو وواشنطن على النفوذ في فضاء الاتحاد السوفيتي السابق والذي وصل إلى ذروته عام 2008 خلال "حرب الأيام الخمسة" في أوسيتيا الجنوبية. وفي الوقت ذاته، أصبحت الصين أكثر حزماً في سياستها الخارجية في ظل تراجع قوة امريكا في أمريكا اللاتينية المجاورة. ومما لا شك فيه أن الأزمة المالية العالمية لعبت دورها المؤثر سلبا أيضا على المخططات الأمريكية الإقليمية.
وظل الصراع بين الطرفين محتدماً حتى الأزمة السورية الحالية، ولكن عادت امريكا، فخسرت رهاناتها، في الوقت الذي عادت روسيا من جديد لتفرض نفسها في منطقة الشرق الأوسط بعد فترة غياب تلت انهيار الاتحاد السوفيتي وأزمتها الداخلية في تسعينات القرن الماضي. وجاءت الأزمة الأوكرانية اليوم، لتكون إحدى أوجه الصراع الجديد بين الدولتين، فبالرغم من محاولات التهدئة الروسية الأوكرانية، تسعى امريكا دوماً لكسر إتفاقات التهدئة بين الطرفين؟، وإن بطريقة غير مباشرة، ومن خلال تسليح اوكرانيا.
ثانياً: الحظر الروسي، ردة فعلٍ روسية، والإتحاد الأوروبي يدفع الثمن:
لا شك أن ردة الفعل الروسية والتي تمثلت بالعقوبات على بلدان الاتحاد الأوروبي، تؤثر على دول هذا الإتحاد أكثر من غيرها، لكونها المُصدّر الأول للمنتجات الغذائية إلى روسيا. ووفقاً لبيانات معهد البحوث الاستراتيجية الشاملة، فإن روسيا تستورد من أوروبا 31.5% من اللحوم، و42.6% من مشتقات الحليب، و32% من الخضار. وكان قد أعلن ممثل الاتحاد الأوروبي في موسكو فيغاوداس أوشاتسكاس في وقتٍ سابق وخلال مقابلة مع إذاعة " غَفوريت موسفكا" أنه " بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن حجم الضرر يصل إلى 12 مليار يورو، لأن المنتجات الغذائية تشكل نسبة 10% تقريباً مما نبيعه لروسيا".
ولو تناولنا تأثير الحظر على بلدان الاتحاد الأوروبي بصورة منفردة، فإن أكثر هذه البلدان المرتبطة بتصدير منتجاتها الغذائية إلى روسيا هي لاتفيا وليتوانيا وبولندا وفنلندا، حيث تصدّر هذه البلدان منتجاتها من الزبدة والأجبان والألبان إلى روسيا بشكل رئيس. وعلى سبيل المثال، فإن فنلندا ترسل إلى روسيا نسبة 77% من صادراتها من الزبدة والدهون، كما تصدّر نسبة 47% من الأسماك المجمدة، أما في لاتفيا وليتوانيا فإن نسبة تصدير منتجات المرتديلا إلى روسيا تبلغ 43% ، وكذلك بولندا وليتوانيا، حيث ترسل كل منها إلى روسيا أكثر من نصف صادراتها من الخضروات والفاكهة والمُكسَّرات. أما بالنسبة لألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وإسبانيا، فيعتقد المختصون في معهد البحوث الاستراتيجية الشاملة بأن بعض المنتجات ذات الطبيعة الخاصة قد تتعرض لتأثير العقوبات الروسية، ومن بينها على وجه الخصوص، لحم البقر المجمد الذي تستورده روسيا بنسبة 9% فقط من إسبانيا و6% من إيطاليا، كما تستورد نسبة 6% من لحم الخنزير والفاكهة المجففة من ألمانيا (إحصائيات معهد البحوث الاستراتيجية الشاملة).
وفيما يتعلق بامريكا وكندا وأستراليا، فإن روسيا تستورد أيضاً من هذه البلدان اللحوم والأسماك والخضار والدرنيات، ولكن الحجم العام لاستيراد هذه المنتجات لا يمثّل أهمية كبيرة.
إذاً ها هي دول الإتحاد الأوروبي تدفع من جديد ثمن تبعيتها للسياسة الامريكية. والشيء العجيب، هو أن هذه الدول كانت دوماً أداةً لدى اللاعب الأمريكي، وما زالت حتى اليوم تستخدم سياسة النفاق في التعاطي مع الملفات السياسية كافة. فإذا كانت ردة الفعل الروسية مبررةً في ظل سياسة الإتحاد الأوروبي، كيف يبررُ الإتحاد الأوروبي بقاءه في حضن امريكا، وهي التي كانت ومازلت تستخدمه أداةً لسياساتها؟؟!!...