الوقت - حمل الإنقلاب الفاشل الذي حصل في تركيا يوم الجمعة الماضي رسائل عميقة للنخب السياسية والدينية والإجتماعية في هذا البلد بضرورة العودة إلى إعتماد النهج الإسلامي القويم والقيم الإنسانية الأصيلة لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح ورسم مستقبل واعد للشعب والأمة التركية على جميع المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
والسؤال المهم هو: كيف يمكن لتركيا أن تعود لمنهج الإسلام الأصيل بعد هذه التجربة المرّة والخطيرة التي واجهتها خلال الأيام الماضية؟ وما هو السبيل الصحيح لإستيعاب الدروس والعبر البليغة التي إستبطنها الإنقلاب والتي يمكن من خلالها فهم وتحليل ما ستؤول اليه الأمور في هذا البلد الإسلامي الكبير؟
دعم الجماعات الإرهابية
أولى الدروس التي يجب إستيعابها بدقة من الإنقلاب العسكري الفاشل هي المخاطر الجمّة التي نجمت عن دعم القيادة التركية للجماعات الإرهابية في المنطقة وفي مقدمتها تنظيم "داعش" خلال السنوات الماضية. فقد تبين بوضوح أن هذه الجماعات تشكل خطورة بالغة على أمن وإستقرار تركيا نفسها وليس فقط على أمن وإستقرار دول الجوار لاسيّما سوريا والعراق.
والدرس الآخر الذي ينبغي إستلهامه من الإنقلاب الفاشل هو ضرورة إعادة النظر من قبل القيادة التركية في علاقاتها مع دول المنطقة خصوصاً بعد نجاح محور المقاومة الإسلامية في التصدي للمشروع الصهيوأمريكي في الشرق الأوسط والهزائم المنكرة التي مُنيت بها الجماعات الإرهابية المدعومة من قبل أنقرة في كل من العراق وسوريا.
فمن الأخطاء القاتلة التي إرتكبتها تركيا خلال السنوات الماضية هو التدخل بالشأن الداخلي السوري والدعم العسكري والإعلامي الواضح الذي قدمته للجماعات الإرهابية القادمة من دول مختلفة والسماح لها بالإستفادة من أراضيها وعبور حدودها لتنفيذ عمليات إجرامية داخل الأراضي السورية.
وبعد مرور أكثر من خمس سنوات على إندلاع الأزمة السورية بات واضحاً جداً بأن الدور الذي قامت به أنقرة من خلال دعمها للمشروع الصهيوأمريكي الرامي إلى القضاء على خط المقاومة الإسلامية في الشرق الأوسط قد إنعكس سلباً على الأمن والإستقرار السياسي في تركيا، وساهم إلى حد كبير بحصول حوادث مرّة تبلورت بشكل واضح في الإنقلاب الفاشل الذي شهدته البلاد قبل عدّة أيام.
تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني
من الأخطاء الأخرى التي إرتكبتها تركيا في الآونة الأخيرة قيامها بتطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي الغاصب وتبادل السفراء بين الجانبين بعد قطيعة دامت ست سنوات إثر الهجوم البربري الذي شنته القوات الإسرائيلية على سفينة مرمرة في البحر المتوسط وأدّى إلى مقتل وجرح عدد من نشطاء السلام الأتراك، عندما كانوا في طريقهم لإيصال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة الذي يتعرض لحصار صهيوني شامل منذ نحو عشر سنوات.
وتعكس إعادة العلاقات مع الكيان الإسرائيلي من قبل أنقرة مدى إبتعاد القيادة التركية عن النهج الإسلامي الأصيل الذي يشدد على ضرورة نصرة الشعب الفلسطيني المظلوم ومواجهة كيان الإحتلال الغاصب، وهو خطأ فاحش لابدّ من تداركه سريعاً وقبل فوات الأوان، خصوصاً بعد إدانة المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية والإقليمية لهذا الإجراء الخاطئ.
ومما لاشك فيه ونظراً للسجل والتاريخ الأسود الذي تتميز به السياسة الأمريكية والصهيونية العالمية ومحاولاتها الرامية للتغلغل في داخل البلدان الإسلامية سواء في الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا أو آسيا الوسطى والقوقاز. فمن غير المستبعد أن تكون أمريكا والكيان الإسرائيلي وراء محاولة الإنقلاب الفاشلة في تركيا، وهذا الإحتمال يرجحه الكثير من المراقبين لوجود قرائن وشواهد كثيرة تشير إلى أن واشنطن وتل أبيب هما المستفيد الأول من هذا الإنقلاب في حال نجاحه، كونه يمهد الأرضية لزعزعة الأمن والإستقرار في عموم المنطقة، وهو ما تسعى له الإدارة الأمريكية لتنفيذ مشروعها المسمى "الشرق الأوسط الجديد أو الكبير" خدمة لربيبتها "إسرائيل".
موقف الشعب التركي من الإنقلاب الفاشل
أثبت الشعب التركي من خلال موقفه الحازم والرافض للإنقلاب العسكري بأنه من الشعوب التوّاقة للحرية والديمقرطية النابعة من المتبنيات والقيم الإسلامية، وهذا الأمر يستدعي من القيادة التركية مراجعة مواقفها تجاه شعوب ودول المنطقة لاسيّما الشعب السوري الذي ضحّى بالغالي والنفيس من أجل الدفاع عن سيادة وإستقلال بلاده ووحدة أراضيه ضد الهجمة الشرسة والواسعة النطاق التي تشنها القوى الإستكبارية بدعم من الأنظمة الرجعية في المنطقة لاسيّما قطر والسعودية والتنظيمات الإرهابية الممولة من قبل هذه الأنظمة.
وحريّ بالقيادة التركية أن تولي إهتماماً خاصاً لمطالب وتطلعات الشعب التركي العقلائية والمشروعة، خصوصاً الطبقات المثقفة والشرائح الكادحة التي تعتقد بأهمية عودة الحياة الإسلامية الأصيلة إلى المجتمع التركي بإعتبإرها الضمانة الأكيدة لتطبيق العدالة الاجتماعية وتعزيز التلاحم بين مختلف فئات المجتمع، وضرورة التنبه للمخططات الغربية التي تستهدف تمزيق وحدة الأمة الإسلامية والهيمنة على مقدراتها لتحقيق مصالحها غير المشروعة في العالم الإسلامي.
ختاماً لابدّ من التأكيد على أن أمن وإستقرار تركيا لا ينفك عن أمن وإستقرار الشرق الأوسط برمته، ولهذا يجب على القيادة التركية التنسيق التام مع كافة دول المنطقة من أجل إيجاد صيغة عملية لتحقيق هذا الهدف، والكفّ عن سياستها السابقة التي سمحت للقوى الأجنبية بإختراق سيادة وإستقلال بعض الدول المجاورة وفي مقدمتها العراق وسوريا، لأن هذه السياسية ستعود بالضرر الكبير على تركيا عاجلاً أم آجلاً، وما الإنقلاب العسكري الفاشل الذي حدث مؤخراً إلاّ دليلاً دامغاً على صحة ما ذهبنا إليه، الأمر الذي يحتم علينا أن ننبه إلى خطورة مواصلة هذا النهج قبل وقوع الكارثة وحلول الندم حين لا ينفع الندم.