الوقت- يبدو أن الدول الكبرى بدأت تأخذ التحديات العسكرية المتجددة على محمل الجد، اذ بات للمواجهات العسكرية أشكال مختلفة عما كانت عليه في السابق، فالأساليب العسكرية الكلاسكية المعروفة لم تعد تفي بالغرض لمواجهة المدارس القتالية المستحدثة، و يبدو أن أمريكا تعمل على اللحاق بركب المجددين لمدارسهم القتالية.
المدارس القتالية تعددت و تجددت
على طول السنين التي عاش فيها الانسان على كوكب الأرض كانت الخلافات و النزاعات رفيقة له، منذ الحرب الأولى التي اتخذت شكل حجر ضُرب به قابيل في أيام النشئة الأولى، حتى أكبر القنابل الذرية التي ضربت بها هيروشيما باليابان، و توالت الحروب و استمرت حتى اتخذت أشكال جديدة و متعددة، حيث شهدت أولى انتقالاتها النوعية من المواجهة الجسدية البحتة بالسيف و الرمح و التي تعتمد على قوة الجسم بالدرجة الأولى إلى المواجهة المباشرة بعيدة المدة بالأسلحة النارية، الى أن وصلت الى احدث اشكالها أي المواجهة غير المباشرة بالاسلحة بعيدة المدى و ما شاكلها.
و خلال هذه النقلات في الحداثة الحربية التسلحية، رافق الجيوش العالمية تطور من حيث الاسلوب و العقيدة، و أهم أشكال الحداثة في الاسلوب بدأ بما هو معروف اليوم بالحروب و المواجهات الكلاسكية بين المجموعات ثم الجيوش النظامية لاحقاً، إلى أن وصلنا مؤخراً إلى النمط الأحدث و الأكثر فعالية في يومنا الحالي و هو حرب العصابات، التي تعتمد بالدرجة الأولى على الكرّ و الفرّ و الكمائن و الإغارات السريعة و المباغتة و عدم الالتزام بالحدود الجغرافية و الأوقات الزمنية لمعركة ما، و هو اسلوب تستعمله المنظمات الارهابية للأسف. وهذا ما شكّل صعوبة في تحديد الخصم و شكل المواجهة و نوعية العتاد اللازم و غيره، كما يجدر الذكر أن بعض المقاومات ابتكرت هجيناً فعالاً جداً أيضاً من المدارس القتالية أي من حرب العصابات و الحرب الكلاسكية النظامية.
وفي ظل وجود حركات و منظمات ارهابية و غيرها لا تعتمد قواعد الاشتباك الكلاسكية و اساليب المواجهة المباشرة، بل تعتمد على الأنواع الجديدة من المدارس القتالية كحرب العصابات، فلا تحكمها القواعد إنما تعتمد على المباغتة و الفوضى في بعض الأحيان، كما تستشرس بالاجرام و التخويف خارقة كل القوانيين الدولية المتعارف عليها للحروب، شكّل تحدياً جديداً لدول العالم ككل، و الدول المستهدفة من هذا الارهاب و اساليبه بشكل خاص.
أمريكا تشعر بالحاجة لاعادة الهيكلة و التجديد
شهد العالم منذ الحرب العالمية الأولى إقدام أمريكا على التدخل عسكرياً في العديد من المناسبات و الدول، بحجج متعددة و شعارات مختلفة من "منح حق تقرير المصير للشعوب" في الحرب العالمية الأولى إلى "الدفاع عن الديمقراطية" و "صد الخطر الشيوعي" ثم "نظرية الدومينو" وصولاً إلى مواجهة "إمبراطورية الشر" في بداية الثمانينيات ضد ثوار الساندنيستا في نيكاراغوا، وأخيرا "الاحتواء المزدوج" الخاص بإيران والعراق، و"الحرب على الإرهاب" بعد هجمات سبتمبر، ثم شعار مواجهة "محور الشر" و المقصود به العراق وإيران وكوريا الشمالية، ثم اخيراً وليس اخراً شعار "نشر وتوطين الديمقراطية" بما يسمى بـ"مشروع الشرق الاوسط الكبير".
و رافق هذه الشعارات تنامي السيطرة الأمريكية، الذي استوجب تعزيز الأجهزة و القوات العسكرية في هذا البلد و مواكبته للحداثة و التطور على مرّ هذه الفترات و ذلك للحفاظ على السطوة التي تحقق المصالح و المال لأمريكا في البلدان التي تهاجمها، أو من بلدان لها مصلحة في هذه الحروب.
كما شهدت هذه الحروب التي شنتها أمريكا نجاحات و افاقات كبيرة، من أبرزها حرب فيتنام التي انهكت الأمريكيين، وصولاً الى الحركات المقاومة في العراق التي استنزفت الجيش الأمريكي على مرّ السنوات ما اجبره على الانسحاب مؤخراً، و شهدنا في الفترة الأخيرة حذراً أمريكياً شديداً بالنسبة للإقدام على أي تدخل خارجي عسكرياً، في أي بلد بشكل عام و خصوصاً في سوريا فما دلالات هذا الحذر و إلى ما يشير؟
الحرب على الارهاب هو الشعار الطنّان الذي تحمله أمريكا حالياً لتبرير أي عمل عسكري أو سياسي أو عقابي ضد أي دولة، و لكن لم تعد الكلفة في الأرواح و الأموال و العتاد كما في السابق، فالأسلوب القتالي الحديث الذي سبق و أن ذكرناه أعلاه بات يشكل تهديداً فعلياً لأي تواجد عسكري في مناطق تهديده، لا بل حتى أي تواجد مدني أيضاً، فطريقة انتشار المقاتلين في الأحياء المدنية و السكانية، اضافة لأسلوب المباغتة و الاختفاء اندماجاً بين العامة، كما الانفصال في التشكيل العنكبوتي بين مجموعات و وحدات هذا النوع من التنظيمات جعل الحرب الاستخباراتية عقيمة أيضاً، من حيث جمع المعلومات و تحديد الأهداف، فبات لكل مجموعة قائد او أمير مستقل في اتخاذ القرار، كما يجدر الاشارة إلى خطورة اخرى في الأساليب القتالية الجديدة و هي انتشار ساحة المعركة من حيث المكان و الزمان فلم يعد هناك حدود يلتزم بها فبات الارهاب يضرب في أي مكان و زمان و يخترق و يغسل الأدمغة و يجند أينما كان.
كل هذه الأمور مجتمعة و ظروف ميدانية أخرى دفعت الأمريكي للتفكير ملياً في جدّية قدرته على التدخل عسكرياً في أي منطقة في العالم و بات أمام قرار جدّي بضرور التطوير و اعادة الهيكلة و التنظيم في قواه العسكرية لأن فائض القوة و السلاح لا يكفي، إذ بات للأسلوب كلامٌ آخر.
و خير دليل على سعي الأمريكي لهكذا تأهيل و اعادة هيكلة ما أعلنه وزير الدفاع الأميركي "اشتون كارتر" مؤخراً، عن حاجة الجيش الأمريكي الى إعادة تنظيم في العمق لكي يتمكن من مواجهة التهديدات والأخطار العالمية المعاصرة مثل تنظيم داعش. اذ اقترح إعادة النظر بقانون "غولدووتر نيكولس" الذي أقر قبل 30 عاما والذي ينظم هيكلية الجيش الأميركي "1.3 مليون عسكري" والعلاقة بينه وبين السلطة السياسية. و كان "كارتر" ذكر في خطابه أمام مركز "سي سي اي اس" للأبحاث في واشنطن إن الحرب ضد تنظيم داعش أظهرت أنه يجب على القيادات العسكرية في الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا والعمليات الخاصة أن تنسق جهودها أكثر من أي وقت مضى مشيراً الى صعوبة التحدي و المواجهة مع المنظمات الارهابية الجديدة بأساليبها المتجددة.
فهل تشهد أمريكا تحولاً جذرياً في هيكلية جيشها و أسلوبه القتالي و ربما عقيدته القتالية؟ و هل تفادي التورط في تدخلات عسكرية خارجية كان من هذا المنطلق أي الضعف و العجز أمام التهديدات و التحدّيات الجديدة؟ نترك تحولات الفترة المقبلة تحدثنا عن ما قد يطرأ على أساليب القتال المتبعة و الجيش الأمريكي خصوصاً ان أمريكيا أمام مرحلة جديدة مقبلة، بعد الانتخابات الرئاسية القادمة.