الوقت- يعيش الكيان الصهيوني أزمة حكومية وسط تخبط قيادته السياسية وأحزابه الداخلية , وانغماسها في التحضير للانتخابات المكبرة التي دعى اليها نتانياهو كمخرج للأزمة الحالية , وفي نظرة كلية الى وضع هذا الكيان تظهر مؤشرات خطيرة جدا تشير الى أزمات عديدة يواجهها , لا شك في أنها ستترك أثراً استراتيجياً ضخماً , يصل مداها الى تهديد حقيقي لوجود هذا الكيان المصطنع وتمس بنيته الاجتماعية والسياسية والأمنية .
إن البيئة الداخلية لهذا الكيان تعتبر من نقاط الضعف الحقيقي له , حيث أن انعكاس أي متغير خارجي أو داخلي , يؤدي بشكل تلقائي الى تغير كبير في توجه الرأي العام الاسرائيلي , وبالتالي يؤثر على شكل ومكونات السلطة فيه وحتى على القرارات العسكرية والأمنية المترابطة مع قرار الحكومات , لهذا فإن تمثيل التيارات والاحزاب التي تمثل التوجهات السياسية داخل الكيان الاسرائيلي خاضعة بشكل كبير ومتأثرة فعليا بميول الشارع والبيئة الداخلية ومدى تقبلها لاي قرار سياسي وتوجه عام للسلطة الحاكمة.
هذا ما يدعونا الى التوقف في هذه المرحلة الحساسة جدا من تاريخ الكيان الصهيوني , لاجراء مطالعة من الداخل حول توزع الرأي العام الاسرائيلي بين الأحزاب المتواجدة على الساحة السياسية واجراء تحليل واقعي مستند الى احصائيات فضلا عن مؤشرات تضبط لنا ايقاع حركة وتوجه الرأي العام الاسرائيلي في ظل الحديث عن انتخابات قادمة ستحدد شكل الحكومة وبالتالي ترسم صورة استشرافية عن توجه الحكومة وسياساتها في قادم الأيام وتمكننا ايضا من توقع ما ينتظر اسرائيل على مستوى علاقاتها الدولية الاقليمية والداخلية.
إن المتتبع لواقع الكيان الاجتماعي ومجرى الأحداث الداخلية فيه , يمكنه رصد مؤشرات ومعايير منطقية تعكس مستوى التطرف المتزايد داخل المجتمع ,ففي محطات قريبة مفصلية كالحرب الأخيرة على غزة التي خلفت أكثر من 12 الف شهيدا وجريحا معظمهم من الأطفال والنساء , اشاراستطلاع للرأي أجراه المعهد الإسرائيلي للديموقراطية أن 92% تقريبا من المستطلعين- وهم من مختلف الأجيال الإسرائيلية - يعتبرون الحرب على غزة صائبة ، فيما رأى 54% منهم أن الحرب استعملت فيها قوة مقبولة، بينما اعتبر 45% منهم أنه كان يجب استعمال قوة أكبر؛ بمعنى أن 99% من الإسرائيليين يرون بأن القوة التي استعملت كانت مقبولة، وبالتالي فإن نتائجها أيضا مقبولة وتبرر جرائم الحرب التي ارتكبت.
وفي نموذج اخر جاء في الاستطلاع الذي أجراه مركز القدس لشؤون الجمهور والدولة ، معارضة 74.3 في المئة من الإسرائيليين لفكرة إقامة الدولة الفلسطينية على أراضي 67، في حين أن 18.2 في المئة أيد الفكرة وامتنع 7.5 في المئة عن الإدلاء بآرائهم.
كما عارض 74.9 في المئة من الإسرائيليين إقامة أي دولة فلسطينية ضمن خطة تشمل إخلاء الأغوار , بينما أيد 11.5 في المئة الخطة . أما في ما يتعلق بتقسيم القدس ضمن حل مستقبلي لإقامة الدولة الفلسطينية، فقد عارض الفكرة 76.2 في المئة من المستطلعة آراؤهم منهم 89.1 في المئة من اليمين الإسرائيلي، في حين 16.2 في المئة أيد الفكرة .
ورداً على سؤال حول وجود تحول في الموقف من إقامة الدولة الفلسطينية بعد انتشار تنظيم داعش، قال 70.1 في المئة إنه لم يتغير موقفهم، في حين قال 16.8 في المئة، أنهم سيكونون أقل استعداداً لتقديم التنازلات بعد اليوم، بينما قال 4.8 في المئة، إن التغيرات في المنطقة توجب على إسرائيل الإسراع في الحل السياسي بما فيه من تنازلات.
وكشفت الاستطلاعات ايضا عن ازدياد كبير لتيار الصهيونية الدينية ؛ خاصة حزب "البيت اليهودي" بقيادة نفئالي بانيت وتراجع كبير لحزب "يش عتيد" بقيادة يئير لبيد يتجاوز النصف ليتقلص العدد من 19 عضوا إلى 8-9 أعضاء. وهذا يعني أن الطبقة الوسطى ذات التوجهات اليسارية- المحافظة تميل نحو اليمين.
فقوى اليمين سواء العلمانية اليمينية أو اليمينية الدينية تزداد انتشارا ، فيما تنحسر قوى اليسار , الى حد باتت الصهيونية اليمينية والدينية متغلغلة في كافة مرافق المجتمع الإسرائيلي، وهو ما دفع العديد من المحللين الاسرائيليين إلى التحذير من الفاشية الدينية القادمة لحكم هذه الدولة...
وأما المؤشر المهم الذي يظهر توجه الرأي العام الداخلي , هو سعي نتنياهو لارضاء واستقطاب الرأي العام عبر حملات التطرف التي قامت وتقوم بها حكومته , المتمثلة بإقرار مشروع قانون يهودية الدولة , وسبقه طرح مشروع قانون يسحب السيادة الأردنية على المقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس المحتلة في الكنيست, وكذلك اجراءات الاستيطان المتزايد وتدنيس المسجد الاقصى المتكرر في مرحلة زمنية قصيرة , فضلا عن ازدياد العنف وحوادث الاعتداء على الفلسطينيين داخل اراضي 1948 وآخره, الاعتداء الحاقد بالاسلوب الوحشي العلني الذي تم فيه قتل مسؤول ملف الاستيطان في السلطة الفلسطينية قبل ايام الشهيد زياد أبو عين وما يحمل من مؤشرات ودلالات خطيرة جداً.
إن كل هذه الدلالات تثبت توجه المجتمع الاسرائيلي الى التطرف والتشدد لأسباب وعوامل عديدة , لا شك بأن لانعكاسات ظهور التيارات التكفيرية المتشددة في المنطقة تساهم بشكل أكبر في دعم تزايد نسبة التطرف والتشدد المقابل داخل المجتمع الاسرائيلي , وهذا ما يجبر نتنياهو للتماهي مع شعارات التطرف لكسب جولته الانتخابية القادمة , وكذلك سيزيد هذا الواقع تأثير التيارات الدينية داخل المؤسسات السياسية الاسرائيلية نتيجة انحسار وتراجع ثقة الشارع بالقيادات السياسية " المدنية أو العلمانية " المتعاقبة .
هذا السلوك الاجتماعي والتطرف المتزايد عبر عنه العديد من الكتاب والمحللين والمستقرئين واستفاضوا في جمع وتحليل الأسباب والمؤشرات وقراءة نتائج استطلاعات الاحصائيات التي تقوم فيها مراكز الاحصاء داخل الكيان والتي عرضنا جزءا منها في تقريرنا .
لكن الأهم من ذلك , هو ما يحمله هذا التغير من تبعات خطيرة جدا تهدد وجود هذا الكيان قبل كل شيء , لأنه يتجه الى التطرف في حين أن السياسة الدولية العالمية تتجه الى مواجهة التطرف بشتى انواعه , لما يتركه من احتقان وخطر يمس الأمن العالمي ويسعر الحروب والخلافات على مستوى العالم , ويزيد من حدة الازمة الاقتصادية العالمية, كما تتجه لتفعيل أطر التفاوض واتفاقيات السلام لحل النزاعات بعد فشل الاستراتيجية الاميركية التي أنتجت ولادة التيار التكفيري المتشدد الذي خرج من دائرة سيطرتها وبدأ يتنامى ويتشعب بشكل أحرج أميركا وأنهك وهدد العالم في السنوات الأخيرة وما زال.
إن هذا التطرف يدفع المجتمع المحيط باسرائيل الى التأهب , ويقوض أي فرص للتسوية والتفاوض , ويسحب الذريعة التي تتمسك فيها الاطراف الأخرى التي تلقى أحيانا صدى في المجتمع العربي والعالمي , والتي تسوق لفكرة السلام العادل والشامل ومنطق التفاوض .
هذا ما يضع اسرائيل امام مواجهة مع المجتمع الدولي ويحرجها أمام حليفتها الولايات المتحدة الاميركية التي تسعى الى ترميم ما تبقى من فتات صورتها والالتفاف على النتائج الكارثية التي حملتها سياستها الى العالم .
في المقابل إن هذا يعطي الفرصة لتيار الممانعة والمقاومة للتوسع والانتشار أكثر, وازدياد الرهان عليه كحل فعلي ملموس ووحيد لحفظ ما تبقى من قضية الصراع العربي الاسرائيلي , ورعاية حقوق الأمة التي ضاعت على طاولات المفاوضات الغير مجدية , ويعزز تمدد هذا المحور , النتائج الباهرة التي حققتها حركات المقاومة على امتداد خطوط المواجهة من انتصارات جعلت اسرائيل تدفع وما تزال فاتورة كبيرة جدا, مما يفقدها قدرة الردع والتفوق العسكري الذي يعتبر أحد أعمدة الأمن الاستراتيجي للكيان المتواجد غصبا في محيط معاد.
كل هذا يفتح المجال أمام دول محور الممانعة للعب دور اقيليمي بل دولي مهم جدا وفرصة تدعيم حصانة محورها وتعميم تجربتها على مستوى خطوط المواجهة .
هذا الواقع الجديد الاسرائيلي, نضعه في اطار أن المجتمع الاسرائيلي يصنع ويصمم شكل نهايته وانهياره بنفسه ويسير في زمن دقيق بما يخالف مصالحه وعكس توجهات حلفائه والسياسة العالمية .
لأن الطبيعة العدوانية لاسرائيل هي نفسها علة نشوء تيار المقاومة ومدد لشرعيته, فإن هذا السلوك الاجتماعي الاسرائيلي هو مطلب هذه الحركات التحررية , التي كانت تجهد نفسها لاظهار حقيقة هذا العدو المعتدي والذي لا يمكن العيش الى جانبه لأنه يعدم أي فرصة للسلام , ولأنه لا سلام مع كيان قام على أنقاض أحلام شعب كان ينعم بحقوقه في وطنه كحال أي شعب في العالم, ومازال يتمسك بحق عودته ويجهد في انتزاع حقوقه , بإزالة هذا الكيان وإعادته من حيث أتى فتاتاً. هي فرصة ذهبية تقدمها اسرائيل بيدها خدمة لمشروع قوى الممانعة الساعية الى انهاء هذه المهزلة التاريخية التي خطت بقلم بلوفر, ومع أن قادم الأيام ستحمل صراعات دامية في الداخل الفلسطيني ما لم يتم تدارك الوضع عالميا والضغط على اسرائيل لتقديم تنازلات تحول دون انسداد أفق التسوية , لكن المقاومة الفلسطينية حاضرة للانقضاض على هذا العدو التي ستبدأ كما فعلت بمواجهته في مناطق الضفة الغربية وأراضي ال 48 ونقلت الصراع الى جبهة متقدمة جدا داخل هذا الكيان.
